«نور» من السجن!

منذ 6 أشهر 123

ذات مرّة وهو ينقّب في الأرض، وجد عالم الآثار الفلسطيني «نور»، هويّة زرقاء في جيب معطف قديم تعود ملكيته لمستوطن إسرائيلي يحمل الاسم «أور»، فيقرر من فوره أن يتحول من «نور» إلى «أور»، مرتدياً قناع المحتل في محاولة لفهم مفردات العقل الصهيوني، ثمّ ينضّم إلى بعثة تنقيب في إحدى المستوطنات، هناك تتجلى أمامه فلسطين المطمورة تحت التراب بكل تاريخها، كما تتجلى أمامه المسافة الفاصلة بين شخصيتي «نور» و«أور»، بين السردية الأصلية المهمشة، والأخرى السائدة بحكم القوة... هذه كانت الخيوط العريضة لرواية «قناع بلون السماء»، للأسير الفلسطيني باسم خندقجي التي فازت بالجائزة العالمية للرواية العربية، ويقبع كاتبها في السجون الإسرائيلية منذ نحو عشرين عاماً، ويقضي حكماً بثلاثة مؤبدات.

الرواية مثيرة للاهتمام، وقال عنها رئيس لجنة التحكيم نبيل سليمان، إنها «رواية يندغم فيها الشخصي بالسياسي في أساليب مبتكرة، رواية تغامر في تجريب صيغ سردية جديدة للثلاثية الكبرى؛ وعي الذات، ووعي الآخر، ووعي العالم. رواية يتميز فيها بناء الشخصيات أياً تكن تناقضاتها...».

ليست هي العمل الوحيد لهذا الأسير الفلسطيني، بل هي رابع عمل أدبي له بين الرواية والدواوين الشعرية، لكنه قال إن رواية «قناع بلون السماء» ستكون الأولى من أربعة أجزاء باسم «رباعية المرايا»..

بعيداً عن الجدل الذي أعقب تأهل هذه الرواية ثم فوزها، بين القائل إن مأساة غزة أعطتها «زخماً»، والقائل إنها حظيت بـ«دعم» و«تعاطف» لجنة التحكيم، وهذه معلبات التشكيك الجاهزة التي نسمعها عند فوز أي عمل بأي جائزة كانت!

المهم أنها رغم بزوغها من ظلام السجن، فإنها فتحت باباً واسعاً لنقرأ التجارب الإنسانية المشحونة بطاقة هائلة من العواطف والفن والإبداع، التي إما: كُتبت في السجون، وإما أنها تناولت السجن. هناك مشوار طويل من الأعمال الإبداعية التي صنعت حقائق وحققت سبقاً فكرياً على المستوى الإنساني كُتبت في السجون، مثل «عزاء الفلاسفة» في القرن السادس الميلادي، والملحمة الشعرية «الكوميديا الإلهية» لدانتي أليغييري، ومثلها رواية «دون كيشوت» التي تصنَّف على أنها أول رواية أوروبية حديثة... وغيرها، وغيرها.

إلى جانبها؛ هناك أعمال روائية تناولت السجن، مثل رواية «العصفور الأحدب» لمحمد الماغوط، ورواية «شرق المتوسط» لعبد الرحمن منيف، و«شرف» لصنع الله إبراهيم، ورواية «أمير الظل: مهندس على الطريق» لعبد الله البرغوثي، و«تلك العتمة الباهرة»، للطاهر بن جلون، و«تجربتي في سجن النساء» لنوال السعداوي.

ممدوح عدوان (مثلاً) كتب رواية «حيونة الإنسان» مستعرضاً ما يلحق بالإنسان في بعض السجون من عملية انحطاط وتقزيم وتشويه، بعد أن «كان الفلاسفة والمتصوفون والفنانون والمصلحون يسعون، كلٌّ على طريقته، إلى السمو بالإنسان نحو الكمال الذي خسره، أو اليوتوبيا (أو المدينة الفاضلة) التي يرسمونها، أو يتخيلونها له».

من تركيا، يقدّم الروائي التركي عزيز نسين في رواية «سرنامة» تجربة لها مذاق مختلف؛ هي تغوص في عالم الطبقات الاجتماعية السفلى في المجتمع تنقل حياتهم ومآسيهم أيضاً من خلال سيرة سجين ارتكب عديداً من الجرائم حتى حُكم عليه بالإعدام، لكن حين تتاح له الفرصة للانتقال إلى جناح السجناء السياسيين ويختلط بطبقات أخرى تتغير حياته، الحياة بين عنابر السجن هي انتقال من عالم إلى آخر يمثّل انعكاساً للمجتمع في الخارج.

الإيرانية كاميليا انتخابي فرد، كتبت روايتها «كاميليا: سيرة إيرانية» بعد أن تعرضت للسجن في بلادها ثم خرجت للمنفى لتروي ما يحدث خلف الستار الحديدي.

رواية «السجينة»، التي تتناول سيرة مليكة أوفقير، وكتبتها الروائية الفرنسية ميشيل فيوتسي، وتروي سيرة مليكة وإخوانها أبناء الجنرال المغربي أوفقير الذي اتُّهم بمحاولة انقلاب فاشلة على الحكم؛ رغم أنها ممهورة بالأسى والألم والحزن، فإنك تجد ضوءاً يسطع داخلها، كأن الكاتبة وجدت طعم الحياة هناك: تقول «إني لأرثي لكل هؤلاء البشر الذين يعيشون خارج قضبان السجن، ولم تتسنَّ لهم الفرصة ليعرفوا القيمة الحقيقية للحياة».

لعل أفضل تأهيل ودعم نفسي ومعنوي وروحي للسجين أن توفّر له الكتاب والورق والقلم... مهما كان الفعل الذي ارتكبه، دعوه يقرأ ويكتب، لتصفو نفسه، وتتطهر روحه، فالكتابة سلوة وراحة... ونقاء.