كان نافالني من أشرس معارضي نظام الرئيس فلاديمير بوتين، وكانت حملاته ضد الفساد الحكومي تحظى بدعم شعبي واسع. فمن يكون ذلك المعارض الروسي البارز ذو الكاريزما اللافتة، الذي مات في سجن روسي؟
توفي أليكسي نافالني، الخصم السياسي البارز للرئيس الروسي فلاديمير بوتين، الجمعة في سجن روسي عن عمر ناهز 47 عاما. كان نافالني من أشهر معارضي بوتين، وقاد عدة حملات ضد الفساد في روسيا وشارك خلال مسيرته السياسية في تنظيم احتجاجات واسعة مناهضة للكرملين.
وكان نافالني يقبع خلف القضبان منذ كانون الثاني / يناير 2021، عندما عاد إلى موسكو بعد تعافيه في ألمانيا من التسمم بغاز الأعصاب الذي ألقى باللوم فيه على الكرملين. وقبل إلقاء القبض عليه، قام نافالني بحملة ضد فساد الدولة، ونظم احتجاجات كبيرة ضد نظام الرئيس بوتين للكرملين، وترشح لمناصب حكومية. ومنذ ذلك الحين، تلقى ثلاثة أحكام بالسجن، رفضها جميعها باعتبارها ذات دوافع سياسية.
ولد نافالني في بلدة Butyn بوتين، على بعد حوالي 40 كيلومترا من موسكو، وحصل على شهادة في القانون من جامعة الصداقة بين الشعوب عام 1998 وشارك في برنامج زمالة في جامعة Yale الأمريكية عام 2010.
وحظي السياسي الشاب باهتمام عام من خلال التركيز على الفساد الذي عادة ما يجمع بين السياسيين والشركات الروسية في مزيج غامض. وكانت أحد نشاطات نافالني المبكرة هي شراء حصة في شركات النفط والغاز الروسية ليصبح مساهمًا ناشطًا ويدفع نحو الشفافية.
في روسيا تحت حكم بوتين، تتلاشى المعارضة السياسية في كثير من الأحيان وسط نزاعات داخلية، أو يذهب المعارضون إلى المنفى بعد السجن، أو يشتبه في تسميمهم، أو غير ذلك من أشكال القمع الشديد. لكن نافالني ازداد قوة باستمرار ووصل إلى قمة المعارضة من خلال الإصرار والشجاعة والفهم العميق لكيفية تمكن وسائل التواصل الاجتماعي من التحايل على إسكات الكرملين للأصوات المستقلة في السياسة والإعلام.
من خلال تركيزه على قضايا الفساد، كان نافالني يخاطب شريحة واسعة من الروس الذين كانوا يشعرون بأنهم مخدوعون، وكان لدى عمله صدى أقوى منذ ذلك العمل السياسي الذي يركز على المخاوف المجردة والفلسفية بشأن المثل الديمقراطية وحقوق الإنسان.
وأدين المعارض الروسي عام 2013 بالاختلاس فيما وصفها بمحاكمة ذات دوافع سياسية وحكم عليه بالسجن لمدة خمس سنوات، لكن مكتب المدعي العام طالب لاحقا بإطلاق سراحه في انتظار الاستئناف. وحكمت عليه محكمة أعلى فيما بعد بالسجن مع وقف التنفيذ.
وفي اليوم السابق للحكم، كان نافالني قد سجّل نفسه كمرشح لمنصب عمدة موسكو. ورأت المعارضة أن إطلاق سراحه جاء نتيجة احتجاجات كبيرة في العاصمة على الحكم الصادر بحقه، لكن العديد من المراقبين أرجعوا ذلك إلى رغبة السلطات في إضفاء مسحة من الشرعية على انتخابات رئاسة البلدية.
واحتل نافالني المركز الثاني، وهو أداء مبهر أمام منافسه الذي كان يحظى بدعم بوتين وكان يتمتع بشعبية كبيرة في تحسين البنية التحتية للعاصمة والمظهر الجمالي العام للمدينة.
وتزايدت شعبية نافالني بعد مقتل السياسي البارز بوريس نيمتسوف رميا بالرصاص في عام 2015 على جسر بالقرب من الكرملين.
وكان الرئيس بوتين، كلما تحدث عن نافالني، يحرص على عدم ذكر الناشط بالاسم مطلقًا، مشيرًا إليه بـ "ذلك الشخص" أو صياغة مماثلة، في محاولة واضحة للتقليل من شانه.
حتى في دوائر المعارضة، كان يُنظر إلى نافالني في كثير من الأحيان على أنه يمتلك نزعة قومية مفرطة لدعم حقوق ذوي الأصول الروسية - فقد أيد ضم موسكو لشبه جزيرة القرم عام 2014 على الرغم من أن معظم الدول اعتبرته غير قانوني - لكنه كان قادرًا على تجاوز ذلك في الغالب.
على الرغم من أن القنوات التلفزيونية التي تسيطر عليها الدولة تجاهلت أليكسي نافالني، إلا أن تحقيقاته حول الفساد في روسيا لاقت صدى لدى الشباب الروس عبر مقاطع الفيديو على موقع يوتيوب ومنشوراته على موقعه على الإنترنت وحساباته على وسائل التواصل الاجتماعي. وساعدته هذه الإستراتيجية على الوصول إلى المناطق النائية بعيدًا عن المراكز السياسية والثقافية في موسكو وسانت بطرسبرغ وإنشاء شبكة قوية من المكاتب الإقليمية.
وتوسع عمله من التركيز على الفساد إلى انتقاد النظام السياسي في عهد بوتين، الذي يقود روسيا لأكثر من عقدين من الزمن. كان نافالني شخصية محورية في الاحتجاجات ذات الحجم غير المسبوق ضد نتائج الانتخابات العامة المشكوك فيها واستبعاد المرشحين المستقلين.
أدرك نافالني أنه يستطيع جذب الانتباه من خلال عبارات قوية وتشبيهات بليغة. قد اكتسب وصفه لحزب "روسيا الموحدة"، الذي يشكل قاعدة قوة بوتين، باعتباره "حزب المحتالين واللصوص" شعبية فورية.
وكثيراً ما كان نافالني يغرد على موقع تويتر بتعليقات ساخرة في أثناء احتجازه لدى الشرطة أو من قاعات المحكمة في المرات العديدة التي ألقي القبض عليه فيها. في عام 2017 ألقى شخص مادة كيماوية ضارة خضراء على وجه نافالني، مما أدى إلى أضرار جسيمة في إحدى عينيه. حينها قال نافالني مازحا في مدونة فيديو إن الناس كانوا يقارنونه بشخصية الكتاب الهزلي "The Hulk".
لكن الأمور تطورت بشكل سيء للمعارض البارز.
في أثناء قضائه عقوبة السجن في عام 2019 بسبب مشاركته في احتجاج متعلق بالانتخابات، تم نقله إلى المستشفى بسبب مرض قالت السلطات إنه رد فعل تحسسي، لكن بعض الأطباء اعتقدوا إنه تسمم.
وبعد مرور عام، في 20 أغسطس 2020، أصيب بوعكة خطيرة في أثناء رحلة جوية إلى موسكو من مدينة تومسك في سيبيريا، حيث كان يعمل على تنظيم مرشحي المعارضة. وانهار في الممر في أثناء عودته من الحمام، وهبطت الطائرة اضطراريا في مدينة أومسك، حيث أمضى نافالني يومين في أحد المستشفيات حين كان أنصاره يتوسلون للأطباء للسماح له بنقله إلى ألمانيا لتلقي العلاج.
بمجرد وصوله إلى ألمانيا، اكتشف الأطباء أن نافالني كان قد تسمم بمادة نوفيتشوك، أي غاز الأعصاب الذي كاد أن يقتل الجاسوس الروسي السابق سيرغي سكريبال وابنته في إنجلترا عام 2018 وأدى إلى وفاة امرأة أخرى.
وظل نافالني في غيبوبة لمدة أسبوعين تقريبا، ثم كافح لاستعادة القدرة على النطق والحركة لعدة أسابيع أخرى. وأظهر أول منشور له على إنستغرام في أثناء تعافيه ذكاءه وروح التحدي لديه، حيث قال إن التنفس من تلقاء نفسه هو "عملية رائعة يستهين بها الكثيرون"، وإنه ينصح بها بشدة.
أنكر الكرملين بشدة أن يكون وراء حادثة التسمم، لكن نافالني تحدى هذا الإنكار بخطوة جريئة: مكالمة هاتفية مازحة، ولكنها خطيرة. وقد نشر تسجيلاً لمكالمة قال إنه أجراها مع عضو مزعوم في مجموعة من ضباط جهاز الأمن الفيدرالي الروسي (إف إس بي) الذي زعم أنه نفذ عملية التسمم ثم حاول التستر عليها. ودحض جهاز الأمن الفيدرالي هذه المزاعم قائلا إن التسجيل كان مزيفاً.
بعد ذلك أعلنت السلطات الروسية أن نافالني، وخلال فترة وجوده في ألمانيا، انتهك شروط الحكم مع وقف التنفيذ في إحدى القضايا التي أدين فيها بالاختلاس، وأنه سيتم القبض عليه إذا عاد إلى بلده.
لكن البقاء خارج روسيا لم يكن من طبيعته نافالني. لذا استقل هو وزوجته طائرة متوجهة إلى موسكو في 17 كانون الثاني / يناير 2021. ولدى وصوله، أخبر نافالني الصحفيين المنتظرين أنه سعيد بالعودة، وتوجه إلى مكتب مراقبة الجوازات، حيث تم احتجازه على الفور. وفي ما يزيد قليلاً عن أسبوعين، تمت محاكمته وإدانته وحكم عليه بالسجن لمدة عامين ونصف.
وأثارت الأحداث احتجاجات حاشدة وصلت إلى أقصى أنحاء روسيا وشهدت اعتقال أكثر من عشرة آلاف شخص من قبل الشرطة.
وكجزء من حملة قمع واسعة النطاق ضد المعارضة التي أعقبت ذلك، حظرت محكمة في موسكو في عام 2021 مؤسسة نافالني التي كانت تعنى بمكافحة الفساد ونحو 40 مكتبًا إقليميًا، باعتبارها متطرفة، وهو الحكم الذي عرض أعضاء فريقه للملاحقة القضائية.
عندما أرسل بوتين قوات لغزو أوكرانيا في 24 شباط / فبراير 2022، أدان نافالني الحرب بشدة في منشوراته على وسائل التواصل الاجتماعي من السجن وأثناء مثوله أمام المحكمة.
وبعد أقل من شهر من بدء الحرب، حُكم عليه بالسجن تسع سنوات إضافية بتهمة الاختلاس وازدراء المحكمة في قضية رفضها هو وأنصاره ووصفوها بأنها ملفقة. بعد ذلك على الفور بدأت السلطات الروسية بتحقيق جديد، وفي آب / أغسطس 2023 أُدين نافالني بتهم التطرف وحُكم عليه بالسجن 19 عامًا.
وبعد صدور الحكم، قال نافالني إنه يدرك أنه "يقضي حكما بالسجن مدى الحياة، وهو ما يقاس بطول حياتي أو طول عمر هذا النظام".
وقد حاز فيلم وثائقي بعنوان "نافالني"، يعرض تفاصيل حياته المهنية وتسممه الذي كاد أن يؤدي إلى وفاته وعودته إلى موسكو، بجائزة الأوسكار لأفضل فيلم وثائقي في مارس 2023.
وقال المخرج ديفيد روهر عند تسلمه جائزة الأوسكار آنذاك: "أليكسي، العالم لم ينس رسالتك الضرورية الموجهة لنا جميعا: يجب ألا نخاف من معارضة الطغاة والاستبداد أينما ظهر."
وتحدثت زوجة نافالني أيضًا في حفل توزيع الجوائز قائلة: "زوجي في السجن لمجرد قوله الحقيقة. زوجي في السجن فقط لدفاعه عن الديمقراطية. أليكسي، أنا أحلم باليوم الذي ستصبح فيه حراً وتتحرر فيه بلادنا. كن قويا يا حبيبي".
إلى جانب زوجته، ترك نافالني وراءه ابنا وابنة.