نسف شبهة فى شراء الجواري

منذ 1 سنة 241

الإجابة:

الحمدُ لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصَحْبِه ومَن والاه، أمَّا بعدُ

فإن من قواعد الشريعة السمحاء أن المحرم نوعان، محرم لذاته، وهو ما كان تحريمة تحريم مقاصد، كقتل النفس والسرقة وربا الديون والزنا ووغيرها؛ قال الله تعالى: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [الأنعام: 151].

 والنوع الثاني: ما كان تحريمه تحريم الذرائع والوسائل، كالخلوة بالمرأة الأجنبية والسفر بها، والنظر إليها، والنهى عن الصلاة عند طلوع الشمس وعند غروبها، وبيع الربوى بجنس آخر من غير جنسه، سدًا لذريعة النَّساء، الذى هو صلب الربا ومعظمه، وهذا النوع من التحريم أخف من المحرم لذاته؛ ولذلك أبيح للمصلحة الراجحة، وما تدعو إليه الحاجة، فأباح الشارع النظر للمرأة للخاطب والشاهد والطبيب والقاضي.

جاء في "جامع المسائل" (8/ 293): "... وكذلك النظر للأجنبية لما حُرِّم سدًّا للذريعة، أبيح للمصلحة الراجحة، كما أبيح للخُطَّاب وغير، وكذلك بيع الربوي بجنسه، لما أمر فيه بالكيل والوزن لسدِّ الحاجة أبيح بالخرص عند الحاجة، وغير ذلك كثير في الشريعة.

كذلك هنا، بيع الفضة بالفضة متفاضلًا لما نُهِيَ عنه في الأثمان لئلا يُفضِي إلى ربا النَّسَاء الذي هو الربا، فنُهِيَ عنه لسدِّ الذريعة، كان مباحًا إذا احتيج إليه للمصلحة الراجحة". اهـ.

وقال ابن القيم في "زاد المعاد"(2/ 223): "... وما حرم تحريم الوسائل فإنه يباح للحاجة، أو المصلحة الراجحة، كما يباح النظر إلى الأمة المستامة، والمخطوبة، ومن شهد عليها، أو يعاملها، أو يطبها". اهـ.

إذا تقرر هذا، فالنظر للأمة المسامة مقتضياً للمصلحة الراجحة وليس مفضياً إلى مفسدة، ومن ثمّ أباحه الشارع الحكيم؛لأن الله تعالى حرم بيع الغرر وحرم الجهالة في البيع، فالمصلحة تُلجئ المشتري لتبين محاسِن الأم،ة إن كانت تُشترى للنِكاح والإستمتاع، ولذلك أبيح تأمل مفاتنها بالنظر إليها ومسّها من فوق الثياب عند إرادة شرائِها؛ حتى لا يغبن، ولا خِلاف فى مشروعية ذلك، وإنما اختلف أهل العلم فيما يجوز النظر إليه، تمامًا كالخلاف في النظر للمخطوبة ، فأجاز أبو محمد بن حزم وطائفة من السلف النظر لكل ما يدعو لنكاح المخوبة، ولم يجز من النظر للأمة المستامة إلا إلى الوجه والكفين، وهو رواية عن الإمام أحمد، وأجازت طائفة النظر للمخطوبة للوجه والكفين فقط وأباحوا أكثر من ذلك في النظر للإمة المستامة.

ومدار الأمر على الحاجة والمصلحة وليس على الحرية والعبودية كما ظننت؛ بدليل أنهم جميعًا جوزوا للطبيب النظر إلى العورة المغلظة للمرأة الحرة من أجل التداوي، وأجاوا القاضي والشاهد النظر للمرأة للحاجة، وربما أحتاج الشاهد للعورة، فتأمله!

أما ما صحّ عن الحصابي الجليل عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، فإنه فعله للقواعد السابقة، ومعلمًا للأمة ما يجوز لهم فعله عند شراء الجواري، وأنه ليس من الورع ترك النظر للجارية النافي للجهالة والغرر، وأن حال المشتري كحال القاضي والطبي والشاهد والخاطب بجامع الحاجة والمصلحة.

قال المرداوي في "الفروع"(8/ 182): "وينظر من أمة مستامة رأسًا وساقًا، وعنه: سوى عورة الصلاة وقيل: كمخطوبة، نقل حنبل: لا بأس أن يقلبها إذا أراد الشراء من فوق الثوب؛ لأنها لا حرمة لها. قال القاضي: أجاز تقليب الصدر والظهر بمعنى لمسه من فوق الثياب؛ وروى أبو حفص بإسناده: أن ابن عمر كان يضع يده بين ثدييها وعلى عجزها من فوق الثياب، ويكشف عن ساقها، وكذا ذات محرم، وهي إليه، وكذا عبدها. وقال جماعة: وجهًا وكفًا، ومثله غير ذي إربة، وعنه: المنع فيهما، نقله في العبد ابن هانئ"

وقال أبو محمد بن حزم في "المحلى"(9/ 162): "وأما النظر إلى الجارية يريد ابتياعها فلا نص في ذلك عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا حجة فيما جاء عن سواه.

وقد اختلف الناس في ذلك -: فصح عن ابن عمر إباحة النظر إلى ساقها وبطنها وظهرها، ويضع يده على عجزها وصدرها - ونحو ذلك عن علي، ولم يصح عنه، وصح عن أبي موسى الأشعري إباحة النظر إلى ما فوق السرة ودون الركبة، وروي عن سعيد بن المسيب، وروينا عن الأسود بن يزيد: أنه لم يستجز النظر إلى ساقها.

قال أبو محمد: فبقي أمر الابتياع على وجوب غض البصر". اهـ.

هذا؛ والأثر الوارد عن ابن عمر رضي الله عنهما يدل على أن مسّه للجارية كان بعد الشراء؛ لقوله في الرواية: (إذا أراد أن يشتري جارية، فواطأهم على ثمن)، أي بعد أن أتفقوا على السعر، يضع ابن عمر يده على عجزها وينظر إلى ساقيها وَقُبُلِهَا يعني بطنها، وفي الاثر الآخر عن ابن عمر أنه كان إذا اشترى جارية اى أنها أصبحت ملكَ يمين يباح لها ما يباح للزوج من زوجته؛ قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ* إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} [المؤمنون: 5، 6].

أما الرواية المطلق بغير ذلك التقيد، فهي على الأصل، أعني أن مشتري الجارية له أن يعاينها بما ينفي الجهالة والغرر؛ لا سيما وشريعة الإسلام قد جاءت وتجارة الرقيق تجارة رائجة، والرقُّ نظامًا عالميًّا، ولم يكن للإسلام بد من المعاملة به، حتى يتعارف العالم على نظامٍ آخر غير الاسترقاق، والضرورة التي اقتضت إباحة الاسترقاق، هي ذاتها التي اقتضت إباحة التسري بالإماء، وقد ضيق الإسلام منابع الرق، وحصرها، ثم رغب في الحرية، ووسع أبوابها بالعتق فى مخالفات شرعية كثيرة، كالفطر فى رمضان، والظهار، والقتل الخطأ، والحنث في اليمين، وغير ذلك، بل قد رغب في العتق ترغيبًا عامًّا، وجعله قربة لله مستقلة؛ فأمر الله أصحاب العبيد أن يجيبوا طلب من يريد الحرية منهم، وأمر بمعاونتهم على كتابتهم؛ لكونهم محتاجين، فقال سبحانه وتعالى: {وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ}[النور: 33].

 وفي الصحيحين، عن ابن عمر - رضي الله عنهما – قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من أعتق شِقْصًا له من عبدٍ أو شِركًا، أو قال: نصيبًا، وكان له ما يبلغ ثمنه بقيمة العدل، فهو عتيق، وإلا فقد عتق منهما عتق))، فالإسلام حث العتق؛ لتكون النتيجةُ هي القضاءَ على الرق بالتدريج،، والله أعلم.