موعد في «حفلة التفاهة»...!

منذ 1 سنة 200

في روايته الأخيرة «حفلة التفاهة» يروي ميلان كونديرا، (الذي رحل عن عالمنا هذا الأسبوع) هذه الحكاية: قرر الزعيم الروسي جوزف ستالين ذات يوم أن يذهب إلى الصيد، فانتعل حذاء تزلُّج، وتنكّب بندقية صيد طويلة، واجتاز 13 كيلومتراً، وعندئذ، شاهد أمامه طيور حجل جاثمة على شجرة، توّقف وعدّهن، فوجدهن 24 طيراً، لكن لسوء الحظ، لم يكن معه سوى 12 طلقة، فبدأ يطلق النار عليها، ليقتل منها 12 طيراً، ثم عاد ليجتاز من جديد 13 كيلومتراً نحو منزله، ويأخذ مجدداً 12 طلقة ويجتاز المسافة نفسها ليجد طيور الحجل لم تزل جاثمة على الغصن ذاته تنتظر الطلقات... فبدأ يطلق النار عليها، ثم يهبُّ لجمع صيده.

القصة كانت ضمن حكايات «حفلة التفاهة» لكونديرا، وهي الحفلة التي يدخلها الناس أملاً في تقطيع الوقت، أو التلذذ بنعيم (اللامعقول) و(اللامعنى)، فالتفاهة أو اللامعنى كما يراها كونديرا «هي جوهر الوجود، إنها معنا على الدوام وفي كل مكان، إنها حاضرة حتى في المكان الذي لا يرغب أحد برؤيتها فيه؛ في الفظائع، في المعارك الدامية، في أسوأ المصائب»!

في قصة الحجلات... ليس مهماً أن يُصدقّ الناس ستالين حين يسرد هذه الحكاية، لا أحد يجرؤ على تكذيب ستالين، لِيقُلْ ما يشاء! تقول (الرواية): إن خروتشوف (خليفة ستالين) روى حكاية الحجلات في مذكراته، كما سردها ستالين في مجلسه الصغير، لكن «لم يضحك أحد، الجميع بلا استثناء وجدوا أن ما رواه ستالين سخيف، واشمأزوا من كذبته لكنهم صمتوا... وحده خروتشوف تَشجّع وصارح ستالين بما يدور في خلده: هل تقصد حقاً أن طيور الحجل لم تغادر غصنها؟ قال خروتشوف... أجاب ستالين: بالضبط ظلت جاثمة في المكان ذاته...!» هكذا تصبح الحكاية.

برأي كونديرا «ليس المقصود التعرف إلى التفاهة - اللا معنى، بل التعلق بها وتعلّم كيفية الوقوع في حبها...»، يضيف ساخراً: «تنفّس هذه التفاهة التي تحيط بنا، إنها مفتاح الحكمة، مفتاح المزاج الجيد والرضا».

في هذه الرواية يجمع كونديرا أربعة شبان في باريس، كل واحد منهم يمثل قصة من طراز مختلف، كلها لا معنى لها، سوى قتل الفراغ، وسرد الحكايات بنكهات مختلفة، ربما منح ستالين في قصته العبثية سحراً خاصاً للرواية الأسطورية، لأنه أراد أن يفرض سرديته الخرافية على الناس، بل مضى أبعد من ذلك حين راح يدسّ جواسيسه بين الجمهور لينقلوا إليه شعور العامة الغاضب وهم يتندرون على قصته ويُمطرونه بالشتائم... كان ستالين وقتها يشعر بنشوة لا تُقهر وهو يستمتع بإغاظة الناس عبر هذه الكذبة... كان شكلاً من العبثية؛ هل كان صدّام حسين جاداً وهو يعرض للعالم عبقريته الأدبية يوم أصدر رواية «اخرج منها يا ملعون» التي قدّم نفسه فيها واحداً من أهل الأدب والثقافة، ثم لم يكتفِ بقارئها المحلي المغلوب على أمره، فراح يترجمها إلى مختلف لغات العالم...؟ وعلى ذكر (اللعن)؛ معمر القذافي أيضاً أصدر ضمن سلسلة مؤلفاته عناوين مشابهة: «ملعونة عائلة يعقوب»، و«عشبة الخلعة والشجرة الملعونة»، و«تحيا دولة الحقراء»... طبعاً؛ بعد أن فاجأ العالم بسيل من النظريات منذ أطلق «النظرية العالمية الثالثة»، في «الكتاب الأخضر»، ثمّ كتابه العجيب «القرية... القرية، الأرض... الأرض، وانتحار رائد الفضاء»... بعض هذه الكتب أصبحت مناهج دراسية يتلقاها التلاميذ في مدارسهم ويُنشَّأون عليها...!

لا ندخل «حفلة التفاهة» مرغمين في كل حال، هناك من يدخلها مختاراً، ومنتشياً أيضاً، لعل فيما يتم تداوله عبر برامج التراسل ووسائل التواصل، شيئاً من طقوس هذه الحفلة، التقديرات تشير إلى أن متوسط الساعات التي يقضيها الواحد منّا في متابعة وسائل التواصل الاجتماعي يصل إلى ست ساعات يومياً... أغلبها في متابعة نجوم السوشيال ميديا والفاشنيستا، وسيل كبير من المشاهد المصورة التي لا تضيف شيئاً للمعرفة، بل أغلبها يسهم في إضفاء التوتر وتزييف الوعي وتخريب السكينة النفسية للإنسان.

في العالم أيضاً يعشقون التفاهة؛ كمية الحروب والصراعات وصنع العداوات وتدمير البيئة، وتجويع الناس وتشريدهم، تُثبت أن «حفلة التفاهة» التي يصوّرها كونديرا، للوصول إلى (اللامعنى) والتنكر لقيمة الحياة، هي الحالة التي تسود العالم، وتجعله غير آبهٍ بتحديات الحاضر ولا تطلعات المستقبل...

الغريب أن كونديرا كتب هذه الرواية القصيرة بعد أن تجاوز الثمانين من عمره، كان يريد أن يقدّم عملاً أخيراً يشهد له بأنه قرأ كتاب الحياة قبل أن يغادرها ساخراً، قبلها قدّم فيما قدّم: «كتاب الضحك والنسيان»، و«الكائن الذي لا تُحتمل خفّته».