"موسم التسليق"... نباتات تمنحها الطبيعة لموائد اللبنانيين

لا يكتمل المشهد الربيعي في لبنان إلا بخروج نساء ورجال الريف إلى البرية لـ"التسليق" (أي البحث عن أنواع نادرة من النباتات التي تعتبر مصدراً أساسياً لغذائهم)، كما أنها طقس من الطقوس الجماعية المتوارثة عبر الأجيال، إذ ترسخت لتصبح عنصراً من عناصر التقويم لدى كبار السن تحديداً، إذ يقولون فلان تزوج في موسم "الخبيزة"، أو فلان مرض في موسم "الحميضة" (نوع من النباتات). ولا يكف الأهل عن تعليم أولادهم أصول التسليق، لئلا يجوعوا في يوم من الأيام. في المقابل، أصبح "التسليق" يشكل فرصة لشريحة واسعة من الشباب والجيل الجديد لإعادة اكتشاف الطبيعة، وممارسة الأنشطة التي تؤمن تكيف الفرد مع بيئته.

الموسم الموعود  

بعد طول انتظار، عادت أم حسنل لبستانها، تحمل عدة التسليق، كيساً وسكيناً، وتسابق وصول الأغنام إلى شتول "الهندباء البرية".

وتبحث أم حسن مع جارتها عما يمكن أن يتوافر من نباتات برية يمكن الاستفادة منها وجمعها "منذ أن كان عمري 15 سنة، وأنا أقوم بالتسليق، كنت أمارس هذه الهواية مع جدتي وأمي، بعض النباتات تنمو بصورة عابرة وموقتة مثل الخسيسة والمصيرينة (نوعان من النباتات التي تؤكل)، فيما ينمو القرة والجرجير في مختلف أوقات السنة قرب مجاري المياه والينابيع، ويمكن أن تتوافر صيفاً وشتاء".

ويشكل موسم التسليق محطة سنوية ثابتة في رزنامة أهالي الريف اللبناني. ويظهر هؤلاء الأهالي تعلقاً شديداً بالحياة البرية، فهم يتبعون أسلوب "الحدود المفتوحة"، إذ لا يمنع أصحاب الأراضي من دخول الجيران إلى أراضيهم والبساتين لجمع هذه النباتات.

وعن فوائد هذه النباتات تقول أم حسن "الفوائد كثيرة، فليس لها أي ضرر، فهي من الأرض، وتمنحنا القوة والغذاء، وهي دواء للناس".

وتحضر هذه المحاصيل البرية في موائد أهالي الريف منذ يناير (كانون الثاني) حتى أواخر أبريل (نيسان)، علماً أن "موسم بعضها قصير جداً ينتهي مع فبراير (شباط)، فيما تستمر أخرى، كالهندباء البرية والزعتر والميرمية والخبيزة، لغاية مايو (أيار).

طعام مفيد

ما إن تعود أم حسن لمنزلها، حتى تبدأ بتحضير ما جنته يداها من البرية، فبعضها يتم طبخه وأنواع أخرى تؤكل نيئة مع بعض الصلصات والتوابل.

وإلى جانب فوائدها الغذائية، هناك نباتات برية ذات فوائد علاجية، فمثلاً وعلى ذمة إحدى السيدات، تعالج "حشيشة القزازة" (نبتة برية) الجروح العميقة "ويمكن أن توفر علينا خياطة الجرح".

رحلة البحث عن الزعتر البري

موسم التسليق ليس حكراً على النساء، وإنما يدخل في صلب الحياة اليومية للرجال في الريف أيضاً، فهم يمارسون هذه الهواية لإيمانهم أنهم يتناولون مواد غذائية صحية خالية من أي تدخل كيماوي، فهذه هي حال كثيرين من الشبان الذين ينتشرون في جبال ووديان المناطق الريفية اللبنانية.

ويعتبر الشاب أيوب واحداً من هؤلاء، فما أن يعود من عمله، حتى يتواصل مع بعض الأصدقاء للتوجه إلى البرية للبحث عما توافر من نباتات.

ويتوزعون في أنحاء مختلفة من الجبل المقصود، ويبذلون جهدهم بحثاً عن أجود أنواع الزعتر البري، ونباتات أخرى مثل "الميرمية" وغيرها.

ويقول أيوب "في كل يوم من أيام الربيع، أقصد البرية، واعتدت على هذا النهج منذ زمن بعيد، فهي تشعرني بالراحة النفسية، وقيمة الهدوء والعمل بصمت". ويعترف بأهمية الأرض وضرورة الحفاظ على البيئة المتنوعة، لأن ثمارها غير محدودة "فهي تعطي الإنسان كل النباتات الخضراء المفيدة وتعطي من دون مقابل"، مشدداً على فوائد الزعتر الذي لديه مذاق استثنائي، ويمكن أن يؤكل أخضر أو يابساً، أو حتى تقطيره لعلاج أوجاع البطن وغيرها من المشكلات الصحية.

ويشكل التسليق أيضاً مناسبة لتقوية اللياقة البدنية، إذ يضطر إلى صعود الأماكن الصخرية المرتفعة، والنزول في الوديان، لذلك يحذر أيوب مرافقيه من أن "أية خطوة غير محسوبة، قد تكون كلفتها كبيرة".

فوائد ومحاذير

وينظر خبراء التغذية بإيجابية نحو النباتات البرية، ولكن على رغم الفوائد لا يخفي هؤلاء وجود محاذير أيضاً.

وتفند خبيرة التغذية رقية عبدالرحمن بعضاً من منافع النباتات البرية "فالزعتر البري آمن لمرضى الضغط والأمراض المزمنة، ومقاوم للتقرحات والانتفاخ، ويقي من التهابات المعدة والحلق، إلا أنه ممنوع على الحوامل خلال الأشهر الثلاثة الأولى، وزيته محظور على الأطفال الصغار".

تضيف "أما الزوباع فهو معالج لالتهابات المعدة، ويقضي على الجراثيم والبكتيريا والفطريات المعوية، مما يعزز الامتصاص في المعدة، ويحسن عملية الهضم وطرد الغازات، إلا أن الإكثار منه يتسبب بالغثيان والآلام في البطن. والخبيزة مضادة للالتهابات والطفح الجلدي ومحاربة لمشكلات الجهاز الهضمي، والتخلص من البلغم المتراكم في الجهاز التنفسي، ومشكلات الإمساك وعسر الهضم والاسترخاء، وتساعد في النوم وتخفيف الألم وتقوية المناعة، ولكن يمنع استخدامها من النساء الحوامل، واستهلاك أكثر من أربعة أكواب يؤدي إلى الدوار، ويفضل عدم استهلاكها ممن يعانون حساسية الورقيات الخضراء".

وعن نبتة الجرجير تقول عبدالرحمن "غني بالفيتامينات والمعادن، لذلك ينصح به كمضاد للأكسدة، وهو منشط جنسي. كما أنه يقي من الشيخوخة، ويساعد في نضارة البشرة والجلد، ومقاومة أمراض الجهاز التنفسي وتعزيز المناعة وخفض السكري، ولأنه يشعر بالشبع فهو خافض للوزن، واحتواؤه على البيتاكاروتين يساعد في حماية صحة العيون ووقاية العظام، لذلك ينصح به لمن هم فوق 50 سنة، لكنه ممنوع على من هم دون السنوات الأربع، وأيضاً من يتناول الأدوية المسيلة للدم، ومن لديه تقرحات في المعدة".

وتتابع خبيرة التغذية "أما الهندباء البرية فهي مناسبة لمن يعاني الضغط، ومفيدة للتنحيف ومرضى السكري والكولسترول، وممنوع تناولها مع المضادات الحيوية، والأدوية المضادة للاكتئاب والمدرة للبول".

وفي ما يرتبط بـ"الحميضة"، "فهي تحسن الدورة الدموية وغنية بالألياف وتعالج الأرق والجروح، إلا أنها ممنوعة على من يعاني الكسل الكلوي والحصى في الكلية والمرضعات والأطفال ومرضى الربو".