موسكو مع المفاوضات

منذ 1 سنة 134

قبل بضعة أيام، عندما سمع منّي مقدمُ برنامج على القناة الأولى للتلفزيون الروسي بعنوان «اللعبة الكبيرة» رأياً مفاده أن القصف الوحشي والمروع لمدن وقرى غزة، والذي أوقع خسائر فادحة في صفوف المدنيين، لن يساعد بأي حال من الأحوال إسرائيل، حتى مع دعم الولايات المتحدة، على هزيمة الشعب الفلسطيني الذي تكاتف اليوم، بل إنه سيزيد من الإدانة العامة - بما في ذلك إدانتي - لجرائم النظام الإسرائيلي، سألني عما يجب القيام به لتحقيق المصالحة. مقدم البرنامج هو دميتري سايمز، الذي هاجر قبل 50 عاماً من الاتحاد السوفياتي إلى الولايات المتحدة، وكان مستشاراً للرئيس الأميركي ريتشارد نيكسون، وترأس في السنوات الأخيرة هناك مركز NationalInterest، وعاد مؤخراً فجأة إلى روسيا، بعد أن انشق بشكل غامض، وبدأ يوجه انتقادات شديدة اللهجة للسياسة الأميركية. بيد أنه لم يكن لدي ما يكفي من الوقت في البرنامج على الهواء للإجابة عن سؤاله.

في الواقع، الجواب على سؤاله معروف لدي منذ زمن بعيد. أولاً يجب على إسرائيل أن توقف فوراً جميع العمليات القتالية، و«حماس» نفس الشيء تماماً، وهو ما طالبت به موسكو في مشروع قرار لوقف إطلاق النار، لم يحظ بتأييد مجلس الأمن الدولي لسبب واحد فقط وهو الموقف غير البناء للولايات المتحدة. ثم ينبغي على إسرائيل أيضاً اتخاذ خطوات سريعة لإنهاء احتلال الأراضي العربية والفلسطينية، والتخلي عن سياسة الفصل العنصري وضم الأراضي والتوسع الاستيطاني، وكذلك حل المشكلة الفلسطينية وفقاً لما تقتضيه قرارات مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة. ومن الضروري أيضاً إزالة المستوطنات اليهودية غير الشرعية من الأراضي المحتلة، والأهم من ذلك، إنشاء دولة فلسطينية مستقلة كاملة العضوية ضمن حدود الرابع من يونيو (حزيران) 1967، وعاصمتها القدس الشرقية، تعيش جنباً إلى جنب مع إسرائيل. وهذا وحده، وليس الاستخدام الوحشي المروع للقوة العسكرية، هو الذي يمكن أن يضمن سلامة المواطنين الإسرائيليين، الذين وللأسف يدعم غالبيتهم سياسة حكومتهم المجنونة والخطرة على السلام في منطقة الشرق الأوسط، ناهيك عن احتمال تمدد الصراع المسلح إلى خارج حدوده.

إن العالم يتفهم حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها. ولكن ليس بهذه الأساليب والوسائل الرهيبة التي تنتهك أسس القانون الإنساني! لكن أليس من حق الآخرين أيضاً أن يقاوموا الاحتلال؟ أليس على دولة الاحتلال التزامات ومسؤوليات أمام من تحتل أرضهم؟

على خلفية السخط الروسي المشروع على التصرفات الهمجية للجيش الإسرائيلي، برزت لدى عدد من المواطنين ردود فعل متطرفة. حيث هزت مدينة محج قلعة، عاصمة جمهورية داغستان ذات الغالبية المسلمة في شمال القوقاز، في 29 أكتوبر (تشرين الأول)، فضيحةٌ كان سببها اقتحام المطار من قبل حشد غاضب، نحو ألف شخص من البلطجية، بدافع من الشعور بالتضامن مع الفلسطينيين. كانوا يبحثون عن «لاجئين يهود» بين ركاب رحلة قادمة من تل أبيب. بالفعل كان من بين هؤلاء الركاب العديد من «التات»، وكذلك يهود الجبال، الذين اصطحبوا أطفالهم إلى إسرائيل لتلقي العلاج. ويبدو أن هذا الحدث - ليس من قبيل الصدفة، بل وفقاً لما خطط له المنظمون - وقع في اليوم التالي لليوم الذي عقد فيه الرئيس فلاديمير بوتين اجتماعاً مهماً مع زعماء الطوائف الدينية الرائدة في البلاد. حيث أعرب بوتين وفي معرض مناقشة الصراع في الشرق الأوسط خلال هذا اللقاء، عن خالص تعازيه «لأسر الإسرائيليين ومواطني الدول الأخرى الذين قُتل أو أصيب أقرباؤهم». وقال الرئيس إنه لا ينبغي محاسبة الأبرياء على الجرائم التي يرتكبها آخرون، و«لا يمكن أن تتم الحرب ضد الإرهاب وفقاً لمبدأ (المسؤولية الجماعية) سيئ السمعة، عندما يطبق هذا المبدأ على كبار السن والنساء والأطفال وأسر بأكملها ومئات الآلاف ممن تركوا من دون مأوى وطعام وماء وكهرباء ورعاية طبية». كان من الواضح أن أحداً ما يدير ويوجه ذلك الحشد من البلطجية؛ إذ سارع الناس إلى المطار بشكل فوري ومثير للريبة. لاحقاً سخر المواطنون من مقاطع فيديو ملتقطة خلال هذه الأحداث يظهر فيها رجل ملتحٍ غبي يبحث عن يهودي يُزعم أنه مختبئ داخل محرك الطائرة. هنا ينطبق المثل القائل: «شر البليَّة ما يضحك».

كان من الخطأ رؤية دوافع معادية للسامية في الأحداث التي وقعت في مطار محج قلعة، ذلك لأنه في هذه الجمهورية متعددة القوميات، يعيش ممثلو العديد من المجموعات العرقية في سلام ووئام منذ عدة قرون، بمن فيهم يهود الجبال. إنهم شعب يعتنقون اليهودية، وقريبون عرقياً ولغوياً من التات (يتحدث كل من التات ويهود الجبال نفس لغة المجموعة الإيرانية)، ولم يكن هناك أي صراع أو عداء بينهم وبين جيرانهم. يهود الجبال أناس مغامرون للغاية، من بينهم العديد من رجال الأعمال الأثرياء، فضلاً عن ممثلين بارزين للنخبة الفنية.

يستذكر أحد أغنى رجال الأعمال الروس، وممثل أحد شعوب شمال القوقاز - الإنغوش - ميخائيل غوتسيريف، أنه منذ العصور القديمة لم تكن هناك نزاعات بين شعوب القوقاز. وعندما أنشأ الإمام شامل، الذي تمرد ضد الإمبراطورية الروسية في القرن التاسع عشر، دولة الشريعة، كان في خدمته اثنان من اليهود الجبليين - طبيب وأمين صندوق - أما زوجته المحبوبة آنّا فكانت ابنة تاجر أرميني. حتى إن جيشه كان فيه كوكبة فرسان مكونة من يهود الجبال. لكن اليوم، على عكس العديد من المسؤولين، لا يرى غوتسيريف أنه من الضروري تجنب تصنيف تصرفات المشاغبين في محج قلعة على أنها مظاهر معاداة السامية. بل يدعو إلى اتخاذ تدابير صارمة: «إذا كان خُرّاج معاداة السامية قد بدأ في النمو، فلا ينبغي بأي حال من الأحوال تغطيته بمكياج الغوغائية. وإنما يجب أن يتم فتحه عبر عملية جراحية. قبل أن يصبح خطراً على الحياة، وذلك بهدف قتل معاداة السامية في فكرنا وأرواحنا مرة واحدة وإلى الأبد».

خلافاً للولايات المتحدة وغيرها من الدول الغربية، حيث تستغرق أجهزة إنفاذ القانون في العديد من حالات الاضطرابات الجماعية المماثلة وقتاً طويلاً للتغلب على العقبات البيروقراطية قبل الاستجابة بشكل مناسب، فقد استجابت الهياكل الروسية بشكل فوري ودقيق، وتمكنت من تجنب إراقة الدماء على نطاق واسع. كما استجابت السلطات المحلية على الفور، والأهم من ذلك، كانت الاستجابة السريعة للرئيس الروسي. وباءت بالفشل محاولة تقويض وحدة الروس، الأمر الذي كان يعول عليه منظمو الاضطرابات. وتمت السيطرة على الوضع من قبل عناصر أجهزة إنفاذ القانون، حيث أصيب بعضهم بعد اشتباكات مع المشاغبين. ثم اتضح أن قناة «صباح داغستان» في تطبيق «تلغرام» المعارضة هي التي دعت إلى التجمع من العاصمة الأوكرانية كييف التي تمتد منها الخيوط إلى الغرب، حيث يوجد «محركو الدمى» الحقيقيون.

فهل تنجح روسيا، كما اقترح سيرغي لافروف يوم الجمعة، في إعادة الفلسطينيين والإسرائيليين إلى طاولة المفاوضات؟