مهن تستعيد الحياة على رفات اقتصاد لبنان

منذ 1 سنة 154

داخل سوق شعبية بمدينة صيدا في جنوب لبنان يتناوب الزبائن على الدخول إلى محل أحمد البزري لتجديد أحذيتهم القديمة حيث يمتهن هذا الإسكافي حرفة انتعشت على غرار مهن أخرى بفعل الانهيار الاقتصادي المتمادي بعدما كانت مهددة بالاندثار.

ويقول البزري (48 سنة) بينما ينهمك مع عاملين اثنين آخرين في تلبية طلبات الزبائن لوكالة الصحافة الفرنسية، "انتعشت مهنتنا خلال الأزمة وبات الناس يفضلون تصليح الأحذية خصوصاً في ظل الغلاء".

ويضيف الرجل الذي تعلم المهنة من والده "يفضل الفرد أن يدفع 500 أو 600 ألف أو حتى مليون ليرة (11 دولاراً) على أن يشتري حذاء جديداً".

ويشهد لبنان منذ عام 2019 انهياراً اقتصادياً صنفه البنك الدولي من بين الأسوأ في العالم، إذ خسرت الليرة اللبنانية أكثر من 98 في المئة من قيمتها على وقع قيود مصرفية مشددة وأزمة سيولة حادة.

وعلى وقع الأزمة بات غالبية السكان يعيشون تحت خط الفقر مع فقدان قدرتهم الشرائية، مما جعلهم عاجزين حتى عن توفير حاجاتهم الرئيسة حتى بات شراء حذاء أو ثياب جديدة من الكماليات في بلد تلامس فيه نسبة البطالة عتبة الـ 30 في المئة، ولا يتجاوز الحد الأدنى للأجور 100 دولار.

وانتعشت جراء ذلك مهن وحرف كانت مهددة بالاندثار على غرار الإسكافي والخياط والمنجد مع ارتفاع الطلب على خدماتهم.

33NW3CZ-highres.jpg

الإسكافي

وأمام محل البزري يجلس زبون أمام عامل يلصق نعل حذائه قبل أن ينتعله ويمضي مسرعاً، وفي الداخل تنفث سيدة دخان سيجارتها بانتظار أن يجهز حذاؤها، بينما تفاوض الإسكافي على خفض البدل الذي سيتقاضاه، فيما تحيط بها على الرفوف أحذية رياضية وتتدلى أخرى عسكرية معلقة في السقف.

ويشرح البزري بينما يقف أمام ماكينة خضراء مرتدياً قميص العمل أن "ثمة إقبالاً كبيراً على التصليح، إذ ازداد عملنا بنسبة 60 في المئة" عما كان عليه قبل الأزمة، متابعاً أن "فئات الناس كافة تأتي لتجديد أحذيتها، الغني والفقير ومتوسط العمل، وكذلك الموظف والعسكري، حتى أن من لديه حذاء مخبأ منذ 20 عاماً يحضره ليصلحه".

وعلى رغم ازدياد الطلب على خدمات الإسكافي فإن ذلك لا يعني بالضرورة أن دخله ارتفع مقارنة مع ما كان عليه قبل الأزمة الاقتصادية.

وداخل محل متواضع وضيق لا تتجاوز مساحته مترين مربعين في المدينة الساحلية يستقبل الإسكافي وليد السوري (58 سنة) زبائنه عند الباب، بينما تحضر سيدة حقيبة بحاجة إلى خياطة، ويخرج شاب من دراجته النارية حذاء نسائياً صيفياً تحتاج أرضيته إلى لصق.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

يتحدث السوري قائلاً، "صحيح أن عملنا ازداد لكن لم يعد للعملة قيمة"، وبينما يكسو الغبار مقتنيات محله المبعثرة والأحذية المعلقة وماكينة الخياطة القديمة يتابع القول "ما من ربح فأسعار البضاعة مرتفعة، من المواد اللاصقة والإبر والخيطان والمسامير، وكله ندفع ثمنه بالدولار لا بالليرة".

ويجدد الرجل الذي يعيل أسرة من ثلاثة أفراد قرابة 20 حذاء في اليوم، وهو ما يوفر له دخلاً بقيمة مليون ليرة (11 دولاراً) كمعدل وسطي، يقول إنه بالكاد يكفيه لتوفير حاجات بسيطة ودفع الفواتير، ويروي أنه يضطر أحياناً إلى معالجة أحذية مهترئة بناء على إصرار أصحابها لعدم قدرتهم على شراء جديدة، على رغم أنها غير قابلة للتجديد.

وعلى وقع انهيار العملة المتسارع ودولرة اقتصاد نقدي قدره البنك الدولي بنحو نصف إجمال الناتج المحلي عام 2022، مع معدل تضخم ضمن الأعلى في العالم (171.2 في المئة عام 2022)، تآكلت المداخيل بالليرة بسرعة مما انعكس سلباً على قدرات المواطنين الشرائية.

33NV9RD-highres.jpg

الخياط

وفي أعقاب الأزمة التي يفاقمها شلل سياسي حاد يحول دون تنفيذ إصلاحات يشترطها المجتمع الدولي لإخراج البلاد من محنتها، باتت عرين (24 سنة) المدرّسة العاطلة من العمل، تقصد الخياط محمد مؤذن لإصلاح ملابس قديمة أو تغيير مقاسها.

وتقول عرين، "نقصد الخياطين في هذه الأيام بالذات لأن الظروف أجبرتنا على ذلك"، مضيفة "سابقاً كنا نرمي الملابس أو الأحذية أو الحقائب أو نقدمها لمن يحتاجها، أما اليوم فنحاول أن نستفيد منها قدر الإمكان لأن كلفة التصليح مقدور عليها مقارنة مع ثمن القطعة الجديدة".

ويعمل مؤذن (67 سنة) في مصلحة الخياطة منذ أكثر من 40 عاماً، ويستقبل ما بين 50 و70 زبوناً يومياً في محله المؤلف من طبقتين تتكوم داخلهما عشرات الأكياس المليئة بالثياب القديمة، موضحاً أن "الفرد كان يشتري بنطالاً يلبسه ثم يرميه، واليوم بات يعطيه لشقيقه أو قريبه".

33NV9RY-highres.jpg

وواحداً تلو الآخر يدخل الزبائن إلى المشغل، بعضهم يريد تضييق ثياب قديمة وآخرون يريدون تقصير بناطيل أو فساتين أو إعادة تصميم ملابس قديمة أو حتى ثياب للبحر.

ويقول مؤذن، "سابقاً كانت كلفة تقصير بنطال 3 آلاف ليرة وهو ما يعادل دولارين، أما اليوم فحين نطلب 100 ألف من الزبون، أي نحو دولار، فإنه يجد الكلفة مرتفعة كونه ينال راتبه بالليرة".

المنجد

وعلى بعد عشرات الأمتار ينهمك مصطفى القاضي (67 سنة) في تجديد غطاء سرير متذمراً من نوعية القماش المستخدمة وغير الملائمة للأغطية.

ويشرح الرجل الذي ورث المهنة أباً عن جد بينما تحيط به فرش ووسائد ملونة أن "الظرف الذي نعيشه استثنائي، فثمة أكثرية تفتق اللحاف وتغسل القماش وتعيد تنجيد القطن، وآخرون يبحثون عن الأقل ثمناً"، موضحاً أن "غالبية الناس ترقع، ونتمنى زوال هذا الوضع لأننا مخنوقون".