من هو إسماعيل الجزري مخترع أول آلة شبيهة بالإنسان؟

منذ 1 سنة 115

يقول المستشرق الإنجليزي دونالد هيل "لم تكن بين يدينا حتى العصور الحديثة أية وثيقة من أية حضارة أخرى في العالم، فيها ما يضاهي ما في كتاب الجزري من غنى في التصاميم وفي الشروحات الهندسية المتعلقة بطرق الصنع وتجميع الآلات".

يتحدث هيل في هذه العبارة عن كتاب "الجامع بين العلم والعمل النافع في صناعة الحيل" الصادر عام 1206، لصاحبه العالم إسماعيل الجزري، واحد من أعظم مهندسي القرن الـ13، إذ باتت القطع الميكانيكية التي اخترعها أساس الآلات المصنعة في العصور اللاحقة، وأدت بدورها إلى اختراع الآلات الحديثة التي نستخدمها اليوم من الطائرات والسيارات والقطارات والسفن والغواصات وغيرها، ويكاد لا يوجد جهاز حديث نستخدمه اليوم يخلو من إسهام الجزري بشكل أو بآخر.

أبو الروبوت

ولد إسماعيل الجزري في منطقة تقع في الأقاليم السورية الشمالية على نهر دجلة، يرجح أن تكون "جزيرة عمر" ومنها حصل على اسم "الجزري"، وينتمي رائد العلوم الميكانيكية إلى الأسرة الأرتقية التي حكمت جنوب شرقي الأناضول وشمال الجزيرة الفراتية، وحظي هناك بمنصب كبير المهندسين في ديار بكر، وصمم وبنى عدداً كبيراً من الآليات والقطع الميكانيكية التي وضعت حجر الأساس لما نشهده اليوم من ابتكارات، ولا يزال أثر اختراعاته ملموساً في الهندسة الميكانيكية الحديثة المعاصرة، إذ تنطلق أهم الآليات الحديثة من تطوير اختراعاته، لذا يمكن بدقة أكبر اعتبار الجزري "أبو الروبوت"، نظراً إلى كونه المنشئ لأول آلة شبيهة بالبشر مستخدماً التقنيات الذاتية الحركة.

ويطلق اسمه اليوم على واحد من أكبر متاحف إسطنبول التاريخية "متحف الجزري" وتعرض فيه مبتكراته العلمية، كما قامت أخيراً شركة "بايكار" المتخصصة في صناعة الطائرات المسيرة الشهيرة "بيرقدار"، بإطلاق اسم الجزري على نموذج سيارتها الطائرة التي تعتبر بمثابة الاختراع السابق لأوانه، كما هو حال اختراعات الجزري في القرن الـ13 الميلادي.

الأصالة والتطوير معاً

اشتهر بتأليفه كتاب "الجامع بين العلم والعمل النافع في صناعة الحيل" عام 1206، وصدر النص العربي عام1979  عن معهد التراث العلمي العربي في سوريا، بعد مراجعته من قبل العالم والمؤرخ الفلسطيني السوري أحمد يوسف الحسن، ونشر ضمن سلسلة تاريخ التكنولوجيا العربية التي يصدرها المعهد. ويعد الكتاب واحداً من أهم كتب الهندسة الميكانيكية العربية التي أسهمت في الحضارة العربية الإسلامية قبل انتقالها إلى أوروبا، إذ تذكر بعض المراجع أن بعض الاختراعات لم تظهر في أوروبا إلا بعد قرنين من وفاة الجزري.

وأنفق فيه الجزري 25 عاماً من البحث والتطبيق جامعاً العلوم النظرية والعملية معاً. ووصف فيه 50 جهازاً ميكانيكياً أسهب في وصف طريقة صنعها، لكن الطابع العملي غلب عليه أكثر بسبب ميله إلى اختصاصه الهندسي، ويشبه المتخصصين أسلوب كتابه بنمط الحديث المنتشر اليوم " do-it-yourself أو افعلها بنفسك"، كما أظهر الكتاب مهارته الفنية في رسم لوحات توضيحية مصغرة لاختراعاته مستخدماً أسلوب الفن الإسلامي في فترة القرون الوسطى.

تعد الاختراعات بمجملها ابتكارات أصيلة، لكن حين استوحى بعض الاختراعات من تقنيات وضعها أسلافه ذكر ذلك في كتابه ووصف التعديلات المحسنة التي أدخلها عليها، مثل بنائه إحدى ساعاته المائية الضخمة على نموذج ساعة "أرخميدس الزائف Pseudo-Archimedes" (اسم يطلق على مؤلفين مجهولين يكتبون تحت اسم أرخميدس)، كما يستشهد أيضاً بتأثير بني موسى (أصحاب كتاب الحيل الصادر عام 850) في تصاميم نوافيره، وبأبي حامد الأسطرلابي في تصميم الساعة الشمعية، وهبة الله بن الحسين في الآلات الموسيقية.

اختراعات متنوعة

تنوعت اختراعات الجزري بدءاً من القطع الميكانيكية المبتكرة مثل عمود الكامات Camshaft الذي وصفه للمرة الأولى عام 1206، وهو العمود الذي تربط عليه الكامات (أجزاء مهمة في المحركات تستعمل لفتح وإغلاق الصمامات) ويحول الحركة الدورانية إلى حركة خطية، وقد استخدمه الجزري في أجهزته الآلية والساعات المائية وآلات رفع المياه، لكنه لم يظهر في الآليات الأوروبية حتى القرن الـ14.

وكذلك ظهرت التروس المسننة المقطعية للمرة الأولى بشكل واضح في أعماله ولم تظهر في الغرب حتى عام 1364 في الساعة الفلكية "جيوفاني دي دوندي"، والترس المسنن عبارة عن قطاع من ترس دائري يستقبل أو يوصل الحركة المتبادلة من أو إلى عجلة مسننة.

كما اخترع الجزري خمس آلات لرفع المياه، إضافة إلى طواحين وعجلات مياه تتضمن كامات على محورها تستخدم لتشغيل الآلة، وطور أقدم منظومة للإمداد بالمياه تدار بالتروس والطاقة الكهرومائية، وبنيت في دمشق في القرن الـ13 لتزويد مساجدها ومستشفياتها بمياه تستخرج من بحيرة تدار بعجلة مجوفة ونظام من التروس التي تنقل جرار المياه إلى قناة مائية.

وفي تصنيف آخر، صنع الجزري مجموعة متنوعة من الساعات ووصف طريقة تركيبها الدقيقة بالتفصيل، مطلقاً على كل منها اسماً يتبع الشكل الخاص الذي وضعه فوقها، مثل ساعة القرد وساعة الفيل وساعة الرامي البارع وساعة الكاتب وساعة الطبال وغيرها.

وتضمنت مجموعة الساعات ساعة محمولة تعمل بالطاقة المائية، وكذلك ساعات فلكية ضخمة أكبرها ساعة القلعة لتي عرضت مجموعة المدارات القمرية والشمسية والأبراج، وتتضمن خمسة موسيقيين آليين يقومون بتشغيل الموسيقى تلقائياً عندما تنقلهم رافعات تشغل بواسطة عمود كامات مخفي متصل بعجلة مائية، كما صمم الساعات الشمعية الأكثر تطوراً والتي ما زالت معروفة حتى اليوم، لكن أشهر ساعاته كانت "ساعة الفيل"، وهي تعد واحدة من أهم اختراعاته أيضاً.

ساعة الفيل

تعد ساعة الفيل أول ساعة مزودة بنظام آلي يسجل مرور الزمن بدقة وتتوافق مع تفاوت أيام العام، وجمع الجزري في تصميمها ثقافات متعددة وأفكاراً جديدة عدة، وصممت الساعة على شكل هودج يضم بداخله عناصر متنوعة محمولة فوق ظهر فيل، لكل منها مدلول مرتبط بثقافة معينة، مثل الفيل والتنين وطائر العنقاء والعمامة والسجاد وغيرها، وتضم الأجزاء الميكانيكية (التي تقوم بوظيفة التوقيت وإصدار الصوت كل نصف ساعة) كلاً من الرافعة والترس الدائري المسنن وخزان الماء.

وضمن الجزري معظم اختراعاته ونماذجه تقنيات أوتوماتيكية وذاتية الحركة، وعندما طلب منه الخليفة آلة تعينه عند أداء طقوس الوضوء وتغنيه عن الخدم، صنع له آلة على شكل غلام في إحدى يديه إبريق ماء وفي اليد الأخرى منشفة وعلى عمامته طائر، عندما يأتي وقت الصلاة يغرد الطائر ليتقدم الغلام ويصب الماء من الإبريق بمقدار معين وعندما ينتهي من الوضوء يعطيه المنشفة ليغرد العصفور ويرجع الغلام إلى مكانه داخل الصندوق.

وعلى المبدأ نفسه صمم كذلك آلة أوتوماتيكية لغسل اليدين، وآلة تضم نادلة لتقديم المشروبات، إذ يخزن المشروب في خزان ثم يقطر في دلو، وبعد سبع دقائق، يصل إلى الكوب، لتظهر بعد ذلك النادلة من باب آلي وتقدم المشروب.

والجدير ذكره أن هيل كان قد ذكر أن مفاهيم مهمة في التصميم والبناء وردت للمرة الأولى في أعمال الجزري مثل تصفيح القطع الخشبية لتقليل الالتواء إلى حده الأدنى والتوازن الثابت للعجلات واستخدام القوالب الخشبية كنماذج لإنشاء التصاميم، إضافة إلى النماذج الورقية ومعايرة الثقوب وصب المعادن وغيرها.