من «نكبة» 48 إلى حرب غزة 23

منذ 1 سنة 206

في سابقة تاريخية، وبعد 75 عاماً من احتلال فلسطين، أحيت الأمم المتحدة بالأمس رسمياً وبمشاركة الرئيس محمود عباس، ذكرى نكبة الشعب الفلسطيني، بناء على قرار اتخذته الجمعية العامة للأمم المتحدة نهاية نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي. الحدث مليء بالدلالات السياسية والقانونية والمفاهيمية، وأقل ما فيه اعتماد مصطلح «النكبة» كمفهوم يسهم في إعادة تأكيد الرواية الفلسطينية العربية لما حدث في عام 1948 وما قبله، باعتباره اعتداءً صارخاً وافتئاتاً غير مسبوق على حقوق شعب أصيل وتشريده، واحتلال أرضه وإنكار هويته القومية. وذلك مقابل الرواية الإسرائيلية المدعومة غربياً، والقائمة على مبدأ الحق في الاستقلال، وشرعية قيام الدولة وإنكار المسئولية الكاملة عن أعمال العنف والقتل والتشريد للفلسطينيين، التي سبقت إعلان هذا الاستقلال، وما تلاها من ممارسات تعسفية وتمييزية بلا حدود.

مفهوم «النكبة» في شقه القانوني، خاصة إذا ما تم ربطه عضوياً بالقانون الدولي الإنساني وكل المعاهدات التي تنظم مسئوليات قوة الاحتلال، يمتد إلى تأسيس الحق للشعب المضطهد للمطالبة باسترداد كل ما تم الاعتداء عليه، واقتلاعه غصباً من أيدى أصحابه الأصليين مادياً ومعنوياً، فضلاً عن الحق في المطالبة بمعاقبة كل من شارك في ترسيخ هذا الاعتداء ونتائجه مادياً ومعنوياً عبر العقود السبعة الماضية. ومن أهم أبعاده ترسيخ حق العودة للاجئين الفلسطينيين وأبنائهم وأحفادهم إلى أراضيهم الأصلية، وتعويض من لا يعود، وهم الآن ستة ملايين ونصف مليون لاجئ مسجلون لدى وكالة غوث اللاجئين. ومن ثم فاعتماد «النكبة» كمفهوم في وثائق الأمم المتحدة هو نقلة كبرى لصالح فلسطين، وكل المؤمنين بحريتها وحق شعبها في دولة مستقلة ذات سيادة قابلة للحياة وعاصمتها القدس.

تأسيس مفهوم «نكبة الشعب العربي الفلسطيني» ودلالاته القانونية يتطلب في الواقع جهداً علمياً وقانونياً وسياسياً غير مسبوق، لترسيخ كل معانيه الحقوقية والنضالية، والتأسيس عليها في أي تحرك سياسي ونضالي مقبل، ومن هنا تأتي المسئولية الكبرى للأكاديميين الفلسطينيين والعرب وكل المناصرين للحق الفلسطيني، للبناء على إحياء ذكرى «النكبة» في الأمم المتحدة، والربط بينها كما حدثت بالفعل وبين الممارسات الاحتلالية الراهنة القائمة على تعميق الفصل والتمييز، ورفع درجة الرفض والكراهية عالمياً لكل تلك الممارسات. وهناك بالفعل جهد لافت يقوم به عدد من الحملات السياسية والأكاديمية الفلسطينية والعربية والدولية المناصرة للحقوق الفلسطينية، لفضح ومناهضة سلوكيات الاحتلال وكل أشكال الاعتداء على الحقوق الفلسطينية، بيد أنه بحاجة إلى مزيد من التكثيف ومزيد من الأنشطة وورش العمل والدراسات المعمقة، والتعاون مع العديد من مراكز البحوث العربية والدولية ووسائل الإعلام المختلفة، لنشر وترسيخ ثقافة مواجهة آثار «النكبة».

هناك أيضاً حاجة ماسة إلى خطوات سياسية رئيسية لا مفر منها؛ أبرزها بلورة رؤية فلسطينية مختلفة إلى حدٍ كبير عما هو سائد الآن، وخطوتها الأولى إنهاء الانقسام، وما يلحقه من ثقافة وممارسات تضر بالجميع، واستبعاد تام لفكرة، أو بالأحرى، وهْم أن يكون هناك كيان فلسطيني تحت أي اسم؛ دولة أو إمارة أو أي شيء آخر، لجزء من الأرض الفلسطينية المحتلة على حساب الحق الفلسطيني الراسخ في دولة حقيقية تشمل كل الأراضي المحتلة بعد يونيو (حزيران) 1967، واستعادة الوحدة الوطنية الفلسطينية، وتعزيز دور منظمة التحرير الفلسطينية وتطوير أدائها، وتوسيع عضويتها لتشمل كل القوى الفلسطينية الراغبة في الانضواء تحت مظلتها، وبما يرسخ دور المنظمة كتعبير مؤسسي وتاريخي أصيل عن كل الفلسطينيين في الشتات وفي الأراضي المحتلة.

إن المصادفة بين إحياء ذكرى «النكبة» وإنهاء العدوان الإسرائيلي على غزة، بعد خمسة أيام من الهجمات الجوية، وجهود مصرية كبرى ومساندة قطرية لوقف إطلاق النار في غزة، في الوقت الذي يستمر فيه جيش الاحتلال الإسرائيلي وأجهزته الأمنية في اقتحام العديد من بلدات ومخيمات ومدن الضفة الغربية المحتلة، وقتل الفلسطينيين وهدم منازل مقاومي الاحتلال، يكشف إلى أي مدى قابلية الصراع والمواجهات المفتوحة أو المقيدة إلى التكرار مرات ومرات. وكما كشف تبادل إطلاق الصواريخ من قطاع غزة والضربات الجوية الإسرائيلية على أهداف مدنية وغير مدنية، فإن الواقع في كل من فلسطين المحتلة وإسرائيل المأزومة سياسياً، يجسد فراغاً سياسياً كبيراً يزداد عمقاً، أبرز ملامحه الغياب التام لأي جهد دولي أو تحرك مسئول يسعى إلى معالجة جوهر الصراع.

وتبرز هنا صيغة «الهدوء مقابل الهدوء»، التي يعتبرها رئيس الوزراء الإسرائيلي أساس العلاقة مع المنظمات المتحكمة في القطاع وكذلك في الضفة الغربية، والمحدد الرئيسي لعدم القيام باعتداءات وهجمات على أهداف متنوعة في القطاع، بما فيها قيادات المنظمات الفلسطينية، كاشفة عن خواء التفكير الاستراتيجي الإسرائيلي المستند إلى الاقتناع بأن الزمن مدعوم بالقوة العسكرية، والدعم الأمريكي والغربي وغياب المساءلة عن الانتهاكات الجسيمة، هو في صالح استمرار الاحتلال بلا منغصات كبرى. وأن مجرد الهدوء ووقف تبادل النار يُعد إضافة تكتيكية واستراتيجية معاً إلى ديمومة الاحتلال، واستقرار ممارساته في قضم الأراضي الفلسطينية وتوسيع الاستيطان. ويؤمن محللون إسرائيليون بأن الأعباء الاقتصادية التي تترتب على قصف الصواريخ من قطاع غزة، كما حدث في الأيام الخمسة الأخيرة، بما في ذلك تكلفة العمليات الهجومية الجوية الإسرائيلية، وتكلفة صواريخ الاعتراض للمقذوفات الفلسطينية، وهى بملايين الدولارات، هي أمر يمكن تحمله بلا أدنى شكوى، لأنها تكلفة مرتبطة بمبدأ الردع الإسرائيلي من جانب، والدفاع عن أمن المواطنين الإسرائيليين من جانب آخر.

مثل هذا التفكير القائم على تفوق مطلق لقوة النيران الإسرائيلية لا يُقارن بما لدى الفلسطينيين، وغياب عنصر المساءلة الدولية للاعتداء على المدنيين الفلسطينيين، يحمل في داخله الكثير من عناصر الفشل على المدى المتوسط. إذ يتجاهل قدرة العديد من الأطراف الفلسطينية المؤمنة بالنضال العسكري، على تطوير إمكاناتها العسكرية وقدراتها القتالية، بالرغم من كل القيود والحصار. فضلاً عن أن هناك قوى خارجية تؤمن بضرورة دعم تلك المنظمات عسكرياً وسياسياً وتقدم الكثير عملياً. وفى الاعتداء الأخير على قطاع غزة، وصلت الصواريخ والمقذوفات من قطاع غزة، والمنسوبة لحركة «الجهاد الإسلامي» وفصائل أخرى، إلى مديات بعيدة نالت من تل أبيب وسماء القدس، فضلاً عن المستوطنات المحيطة بحدود القطاع، وهو ما أدى بالجيش الإسرائيلي إلى طلب استنفار الإسرائيليين والاستعداد الدائم للجوء إلى الملاجئ حتى 80 كم من حدود القطاع. وصحيح أن إمكانيات تلك المقذوفات الفلسطينية من حيث التدمير ودقة التصويب على أهداف محددة، هي قدرة محدودة للغاية، لكنها تمثل نقلة في عمل تلك المنظمات، مُقارنة بما كان لديها قبل خمس أو عشر سنوات.

والمهم هنا هو أن الزمن ليس في صالح الاحتلال بالمطلق كما يتصوره العقل الإسرائيلي استراتيجياً، فهو أيضاً يحمل مشكلات ومخاطر تزداد حدتها، كما يحمل إضافات ورصيداً ينمو ببطء سياسياً وعسكرياً لدى الفلسطينيين بكل التنوع في توجهاتهم وتحركاتهم، واعتماد مفهوم «النكبة» دولياً دليل بارز.