في جولة تاريخية مجيدة أخذتنا من حفل زفاف الأميرة ذات الوجه الطفولي إليزابيث من فيليب ماونتباتن سنة 1947 إلى الأيام الذهبية لبريطانيا الرائعة في التسعينيات، كان مسلسل "التاج" The Crown الذي تبثه منصة "نتفليكس" رفيقاً فخماً وشمولياً عبر القرن الـ20. بتصويره آل وندسور يمرون بأفضل وأسوأ حالاتهم، بشخصياته الأرستقراطية الرسمية وتلك العاطفية، اكتسب هذا المسلسل سمعة باعتباره جوهرة تاج "نتفليكس"، لكن الآن، مع إصدار الموسم الأخير منه هذا الأسبوع، أصبحت النهاية قريبة - وفي تطور قدري، يجد كل من العائلة المالكة و"التاج" وحتى "نتفليكس" أنفسهم في حالة حرجة أكثر مما كانت عليه الأمور لما انطلقت السلسلة سنة 2016.
الجزء الأول من المسلسل الذي تعرضه "نتفليكس" ويوثق سيرة حياة الملكة إليزابيث الثانية وغطى حقبة من حياتها لم تكن مألوفة لمعظم المشاهدين، كان بمثابة مقامرة يقال إنها كلفت 100 مليون جنيه استرليني. هل سيكون جمهورها متقبلاً لهذا التصوير لأميرة شابة هشة على وشك أن تصبح حاكمة وأسطورة؟ لكن موافقة النقاد كانت شبه جماعية، حيث وصفته صحيفة "ذا غارديان" بأنه "يسبب الإدمان"، بينما قالت صحيفة "وول ستريت جورنال" إنه "رائع"، ووصفته صحيفة "واشنطن بوست" بأنه "بديع" (على كل حال، تجدر الإشارة إلى أن "اندبندنت" عبرت عن تحفظها على هذا التوافق النقدي الإيجابي تجاه العمل).
أثبتت "نتفليكس" التي كرست نفسها بالفعل كمنصة بث متفردة طموحة عقب إصدار مسلسل "بيت من ورق" House of Cards الشهير في عام 2013، صحة قرارها. قال بيتر مورغان، مبتكر المسلسل، في مقابلة مع مجلة "فيرايتي" سنة 2016: "كنت أقول لـ(نتفليكس) دعونا نصنع مزيداً من المواسم فقط إذا ترك المسلسل أثراً كبيراً كافياً، وكان يلقى الصدى المطلوب لدى الناس".
حسناً، مرت سبع سنوات، وأصبح الموسم السادس من المسلسل على وشك الإصدار. إلى حد ما، تضاءلت الضجة الجماهيرية التي استقبلت مواسمه السابقة التي قام بالأدوار الرئيسة فيها أمثال كلير فوي ومات سميث الرائعين، والتي استمرت بفضل دخول الأميرة ديانا في هذا المزيج. بعد إشادة جماعية استمرت لأربعة مواسم، وصل الجزء الخامس العام الماضي (الأول الذي تم إصداره بعد وفاة الأمير فيليب والملكة)، ولقي استقبالاً متوسطاً. تم تلخيص الحكم الجمعي على موقع "روتن توماتوز": "من الصعب التخلص من الشعور بأن هذا المسلسل قد فقد شيئاً من بريقه".
بطريقة ما كان "التاج" مجرد إشارة مبكرة إلى التغييرات الخطرة المحتملة. من بين المسلسلات التي أطلقتها "نتفليكس" في بدايتها، مثل "البرتقالي هو الأسود الجديد" Orange Is the New Black و"ناركوس" Narcos و"أوزارك" Ozark، كان "التاج" و"أشياء غريبة" Stranger Things فقط العملين اللذين واصلا تحقيق النجاح، لكن كليهما يقترب الآن من موسمه الأخير، وأصبح من الصعب تجنب الإحساس بأن هناك باباً يغلق في "نتفليكس"، مشيراً إلى نهاية فترة زمنية.
يقول توبي ميلر، الأستاذ في جامعة كومبلوتنسي بمدريد ومؤلف كتاب "دراسات تلفزيونية" المؤثر الصادر عام 2002: "اعتمدت (نتفليكس) على الحصول على أرقام اشتراكات كبيرة استمرت في الزيادة، من ثم شجعت مزيداً من الاستثمار... وعلى الاستفادة من التقسيم الدولي الجديد للعمل الثقافي من خلال إنتاج أعمال تلفزيونية في جميع أنحاء العالم بأموال (مجانية)". وكان هذا المال الذي تصفه بـ"المجاني" بمثابة فرضية مفادها أنه إذا كان سعر السهم يرتفع - من ثم يولد أرباحاً للمستثمرين - فإن الشركة نفسها لا تحتاج إلى تحقيق أرباح صافية.
كانت فكرة غيرت الصناعة، ما عليكم سوى إلقاء نظرة على مستوى النجوم الذين انجذبوا إلى مشاريع "نتفليكس" في تلك السنوات الأولى، عندما انعكست نعمة المساهمين في الأجور المعروضة الهائلة: كيفن سبيسي، وريكي جيرفيه، وسيلينا غومز، وآدم ساندلر، وإدريس إلبا، على سبيل المثال لا الحصر، ناهيك بمخرجين مثل ديفيد فينشر، ومارتن سكورسيزي، وبونغ جون هو، ونوا بومباخ).
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
امتلكت "نتفليكس" تركيبة مذهلة من المال والموثوقية، وعلى عكس شبكات الكيبل الأميركية التقليدية، لم تطلب التزاماً صارخاً من نجوم الصف الأول المتعاونين معها. يشير ميلر إلى أن "وجود عدد أصغر من الحلقات يقلل الضغط على المبدعين ويركز على نحو أكبر على الجودة".
هناك عدد قليل من المؤسسات التي يمكن التسويق لها على المستوى الدولي أكثر من العائلة المالكة البريطانية. وكان بيتر مورغان، كاتب مسرحية "الجمهور" The Audience التي تصور حوارات بين الملكة إليزابيث ورؤساء وزراء بريطانيا من تشرشل إلى كاميرون، يعرف هذه المؤسسة أكثر من أي شخص آخر. كانت لديه تجربة مع التلفزيون الأميركي، حيث باع فيلمه "العلاقة المميزة" The Special Relationship إلى "شبكة أتش بي أو" سنة 2010. لكنه اشتهر في الولايات المتحدة بفضل فيلم "الملكة" The Queen، الذي أكسب هيلين ميرين جائزة الأوسكار عن دورها في دور صاحبة الجلالة في الفترة التي أعقبت وفاة الاميرة ديانا.
أدرك مورغان على نحو غريزي أن مما جعل صورة ميرين مؤثرة للغاية هو أنها قدمت للمشاهدين فرصة نادرة لرؤية الإنسانية وراء أبهة الزيارات الرسمية والمواكب. لقد كان الفيلم في جوهره قصة عن عائلة.
تقول لورا كلانسي، مؤلفة كتاب "إدارة شركة العائلة: كيف تدير الملكية صورتها وأموالنا": "يوجد (التاج) ضمن فئة مثيرة للاهتمام من التمثيل الملكي... إنه ليس تمثيلاً (رسمياً)، ومع ذلك فقد تم دمجه في الصورة الملكية المتخيلة من قبل الجماهير إلى درجة لم يعد الحد الفاصل بين الحقيقة والخيال واضحاً".
في بعض الأحيان، انحرف المسلسل نحو لهجة دعائية، وإضفاء طابع إنساني على الملكة، والاعتذار عن علاقتها بالإمبراطورية، وتلميع سمعتها لدى عامة الناس، كما رأينا في حلقات مثل تلك التي تناولت كارثة أبرفان [الناجمة عن انهيار مخزن للفحم على مدرسة ابتدائية في قرية أبرفان الويلزية سنة 1966] أو مايكل فاغان الدخيل على قصر باكنغهام [الذي اقتحم القصر ووصل إلى غرفة نوم الملكة سنة 1982]. تقول كلانسي: "لقد فعل (التاج) أشياء إيجابية كثيرة لصالح الملكية... خالقاً صلة بين أفرادها والجماهير الجديدة".
لكن مع وصول السلسلة إلى الماضي القريب، كان عليها أيضاً التعامل مع قضايا فضائحية أكثر. بعبارات صريحة، لقد كان ذلك بمثابة انتقال من الصحافة المرموقة إلى الصحف الشعبية. وفي حين استحق أداء النجمين الصاعدين إيما كورين وجوش أوكونور الإشادة على تجسيدهما الأمير تشارلز والأميرة ديانا أمام المشاهدين، فإن المركزية المتزايدة للدراما التي كانت تدور في القصر لم تحظَ بشعبية عالمية.
تقول ميمي جيل، التي تتابع المسلسل بإخلاص من فلوريدا وتدير نادياً للمعجبين بالمسلسل على "فيسبوك": "بدت المواسم الأخيرة من (التاج) وكأنها عرض منفصل أكثر من كونها جزءاً من (التاج) نفسه". وتشير إلى أنه "يتم تخصيص مزيد من الوقت للعلاقات والدراما التي تدور بين أفراد العائلة المالكة الأصغر سناً، وتخصيص وقت أقل للملكة إليزابيث ودور بريطانيا في تاريخ العالم".
هذا شعور مشترك يسود على نطاق واسع بين المعجبين. قال لي أحد المشاهدين المخلصين من أتلانتا: "توقعاتي للموسم الأخير منخفضة إلى حد ما... نعرف جميعاً كيف ماتت [الأميرة ديانا] وتداعيات رد الفعل الصامت الأولى على وفاتها... لماذا يتعين علينا إعادة صياغة القصة مرة أخرى؟". يقول معجب آخر إنهم "غير واثقين على الإطلاق في أنه سيتعامل مع حكاية ديانا على نحو مناسب"، وإنهم قلقون من أن الرومانسية بين الأمير وليام وكايت ميدلتون "ستبدو كنسخة من قصتهما على غرار الأفلام الرومانسية غير الواقعية التي تعرضها محطات مثل (هولمارك) و(لايف تايم)".
ترى إميلي، وهي معجبة أخرى، أن "صناعة مادة إعلامية عن الأشخاص الذين هم على قيد الحياة أو المتوفين أخيراً، وبخاصة أولئك الذين يحيط الجدل بهم، هو بالفعل تجاوز للحدود"، في حين أن والدتي – والأمهات المنتميات إلى الشريحة العمرية الرئيسة في المسلسل – فإنها لم تستطع في نهاية المطاف حتى تذكر ما إذا كانت قد شاهدت آخر موسم. إذا كان هناك شعور مشترك ضمن القاعدة الجماهيرية، فهو شعور بالخوف. لم يعودوا يثقون في مورغان ولا "نتفليكس" في توجيه دفة العمل وقصة بريطانيا إلى الوجهة المطلوبة.
لكن بدلاً من كونه مسلسلاً ينجرف نحو هلاكه من دون وعي، كما فعلت أعمال مثل "مفقود" Lost أو حتى "بيت من ورق" مع مرور السنين، فإن التحولات في نبرة وتركيز "التاج" كانت جزءاً من استراتيجية طبقتها "نتفليكس" على نطاق أوسع. بعد وباء كورونا وفي ظل عدم اليقين الاقتصادي والإضرابات الطويلة التي أخضعت الصناعة لضغوط، أعلن عن انتهاء عصر "المال المجاني". يقول ميلر: "بدأت المشكلات عندما استقرت الاشتراكات ثم انخفضت... وعلى عكس (أمازون) و(أبل)، كانت (نتفليكس) تفتقر إلى شبكة ضخمة لتوزيع المحتوى الرقمي، إضافة إلى غياب الأعمال التجارية الأخرى التي تجلب لتلك الكيانات دفقاً نقدياً ضخماً لدعم الإنتاج".
"بريدجيرتون" و"الملكة شارلوت" هما الرابط المفقود بين "التاج" كما تم تصوره في موسمه الأول والعمل الشبيه بمقالات القيل والقال الفاحشة الذي أصبح عليه.
وهكذا، انتقلت "نتفليكس" من الناحية الفنية، إلى عمل تجاري يركز أكثر على الإيرادات. اتخذت إجراءات صارمة ضد مشاركة كلمات المرور (وهي خطوة شهدت ارتفاعاً كبيراً في الاشتراكات)، إضافة إلى تقديم نموذج اشتراك متعدد المستويات، يتميز بمحتوى إعلاني بسيط (يقول ميلر "من المفترض أن يعني ذلك أنه سيتم تصوير كثير من البرامج، إن لم يكن كلها، وإخضاعها لعمليات مونتاج بهدف إدراج الإعلانات التجارية"). وبالعودة إلى عام 2016، عندما بدأ عهد "التاج"، لم يكن تصور هذا النوع من التغييرات ممكناً. كان اهتمام "نتفليكس" ينصب على جلب المشتركين ووقت المشاهدة – لكن الآن باتت هناك حاجة مالية ملحة إضافية.
علاوة على ذلك، قامت "نتفليكس" بتنويع إنتاجها بعيداً من الأعمال الدرامية المرموقة التي تحصد الجوائز. ففي نهاية المطاف، نجح مسلسل "توريث" Succession، الذي حقق نجاحاً كبيراً لشبكة "أتش بي أو"، في جذب 2.9 مليون مشاهد تابعوا حلقته النهائية على نحو مباشر، وهو رقم جيد، لكنه لا يزال ضئيلاً مقارنة بـ6.6 مليون مشاهد، الذين تابعوا الحلقة الأولى من الموسم الخامس من مسلسل "يلوستون" Yellowstone على منصة باراماونت (تجدر الإشارة إلى أن "يلوستون" لم يتلق سوى ترشيح واحد لجائزة إيمي، عن فئة تصميم الإنتاج، على مدار وقت عرضه بالكامل).
يقول لوكاس شو، الذي يكتب نشرة "سكرين تايم" لصالح شبكة "بلومبيرغ": "لقد حصلت (نتفليكس) على ثاني أكبر عدد من الترشيحات لجوائز إيمي تظفر بها أية شبكة تلفزيونية بعد (أتش بي أو)... فكرة أن (نتفليكس) لم تعد تنتج برامج تلفزيونية عالية الجودة هي فكرة مغالطة"، لكن يشير إلى أن منصة البث "تركز بدرجة أقل على الأعمال التي تفوز بجوائز أو ترضي الجمهور النخبوي، وتصب تركيزها أكثر على الإنتاجات التي تقنع أكبر عدد ممكن من المشاهدين".
بمعنى آخر، العروض العائلية التي تسعد الجماهير، مثل "وينزداي" Wednesday و"التربية الجنسية" Sex Education. كان هناك تركيز متزايد على القصص التي تستهدف جمهور المراهقين والجيل زد، مثل "هارت ستوبر" Heartstopper و"إيميلي في باريس" Emily in Paris، لكن بعيداً من المشاريع التي من الواضح أنه يتم تسويقها لجمهور أصغر سناً، كان هناك تحول في الأسلوب أيضاً.
على سبيل المثال، صنع المنتج مايك فالاغان ثلاثية من المسلسلات القصيرة لصالح "نتفليكس" استناداً إلى أعمال كتاب رعب مشهورين مثل شيرلي جاكسون، هنري جيمس وإدغار آلان بو (يستند مسلسلا "مطاردة هيل هاوس" The Haunting of Hill House و"مطاردة بلاي مانر" The Haunting of Bly Manor إلى رواية "دورة اللولب" وThe Turn of the Screw وقصة "سقوط آل آشر" The Fall of the House of Usher على التوالي). كلها أعمال خيالية رخيصة، غنية بالتفاصيل والإشارات وشبه ساخرة، متأثرة بأعمال رعب كوميدية مثل "الصرخة" Scream أكثر من تطبعها بأعمال على غرار "طارد الأرواح الشريرة" The Exorcist.
ربما يكون مسلسل "بريدجيرتون" Bridgerton (وسلسلة "الملكة شارلوت" Queen Charlotte المستمدة منه) الرابط المفقود بين "التاج" كما تم تصوره في موسمه الأول والعمل الشبيه بمقالات القيل والقال الفاحشة الذي أصبح عليه. ظاهرياً، يعد "بريدجيرتون" دراما رومانسية شاملة تدور أحداثها في فترة تاريخية معينة موجهة لعشاق قصص جين أوستن، لكن تحت هذه الواجهة يكمن شيء تافه ومثير ومتأثر بروح العصر. تقول كلانسي: "فتحت ديانا اقتصادات تمثيلية جديدة للنظام الملكي... تحديداً من خلال تواصلها الأكثر حميمية والأقل رسمية مع الجمهور". ومن المحتمل أن تطبق "نتفليكس" الجديدة تلك الصيغة الحميمية التي اعتمد عليها مسلسل "بريدجيرتون" على العلاقة الثلاثية بين ديانا، تشارلز، وكاميلا، لو أنها كانت تنشئ هذه الدراما في اللحظة الراهنة.
ربما كان مسلسل "التاج" مثله مثل "نتفليكس"، دائماً في مأزق صعب لا يمكن التنبؤ به. كان محتماً على عصور تشرشل وأتلي وجون كينيدي وليندون جونسون أن تكون محدودة من أجل إفساح المجال للماضي الأكثر حداثة. وفي حين أن الآراء القوية تجاه قانون المدن الجديدة لعام 1946 أو أزمة السويس ربما تلاشت على مر السنين، فإن آراء الناس حول الأميرة ديانا وكاميلا باركر بولز لا تزال جروحاً لم تلتئم. تقول جيل: "أعتقد أنه من الخطأ إنهاء المسلسل بحفل زفاف الأمير تشارلز وكاميلا، وهو ذكرى لا تحظى بشعبية كبيرة لدى كثيرين... قد يترك هذا المشاهدين من دون خاتمة مناسبة لحياة الملكة إليزابيث وعهدها، وأعتقد أنه سيضر بإرث المسلسل".
سواء تم إنهاؤه بالأبهة التي تحظى بها جنازة رسمية على مستوى البلاد أو تلاشى على نحو هادئ شبيه بخروج الأمير أندرو من الأضواء العامة، شي واحد سيحدث على الأرجح: لن تقدم "نتفليكس" عرضاً آخر بضخامة أو عظمة "التاج" في وقت قريب، إذ يبدو أن المقامرة لم تؤت ثمارها.
طرحت منصة "نتفليكس" الموسم السادس من مسلسل "التاج" يوم الخميس 16 نوفمبر (تشرين الثاني).