♦ الملخص:
فتاة ملتزمة كانت تحفظ القرآن، لكنها وقعت في فتنة النظر؛ ما سبَّب لها حزنًا عميقًا، حتى بعد توبتها، وتسأل: هل تعود للحفظ مرة أخرى؟
♦ التفاصيل:
كنت ملتزمة - ولله الحمد - أحافظ على الصلاة، وكنت أطلب العلم، وأحاول حفظ القرآن، لكن وقعت في فتنة النظر، وأذنبت، لكني ملتزمة من ناحية أداء الواجبات والمستحبات؛ هذا الأمر سبَّب لي حزنًا لا أستطيع له خلاصًا، وقد تبتُ، لكني ما زلتُ حزينة، حتى إنني كلما قرأت القرآن وراجعته، يزداد حزني، وأُحِسُّ خوفًا شديدًا من الله، فماذا أفعل كي أرجع لقلبي الطمأنينة؟ وهل يحبَطُ حفظي للقرآن بسبب ذنوبي؟ فهل تنصحونني أن أعود للحفظ وطلب العلم أم لا؟ وجزاكم الله خيرًا.
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله؛ أما بعد:
فملخص مشكلتكِ هو:
١- أذنبتِ بالنظر إلى ما لا يجوز لكِ النظر إليه، ثم ندمتِ وتبتِ.
٢- لكنكِ ظللتِ حزينة جدًّا، وخائفة من عدم قبول توبتكِ.
٣- وتسألين: هل يحبط حفظكِ للقرآن بسبب المعصية؟
٤- وتسألين: هل ننصحكِ بالعودة للحفظ ولطلب العلم؟
فأقول مستعينًا بالله سبحانه:
أولًا: احمدي الله كثيرًا على ما منَّ به عليكِ من التوبة؛ لأن التوبة نعمة عظيمة لا يؤتاها أيُّ عاصٍ، فبعض مَن عَصَوا الله حِيل بينهم وبين التوبة، وازدادوا عصيانًا وتمردًا.
ثانيًا: ما يأتيكِ من وساوس من خشية عدم قبول التوبة هي من الشيطان؛ لصرفكِ عن هذه النعمة الكبيرة، ولعله يظفر منكِ باليأس والقنوط من رحمة الله تعالى، بينما الله سبحانه يدعو عباده لعدم اليأس، ويبين أنه طريق الضالين؛ كما قال تعالى: ﴿ يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ ﴾ [يوسف: 87]، وكما قال عز وجل: ﴿ قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ ﴾ [الحجر: 56].
ثالثًا: الله سبحانه ندب عباده العصاة للتوبة، ووعدهم بقبولها، ونهاهم عن القنوط من رحمته؛ كما في قوله سبحانه: ﴿ قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ﴾ [الزمر: 53].
رابعًا: والنبي صلى الله عليه وسلم حثَّ على التوبة، وبيَّن فضلها وثمراتها؛ كما في الأحاديث الآتية:
روى الترمذي عن أنس بن مالك، قال: سمِعْتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((قال الله تبارك وتعالى: يا ابنَ آدمَ، إنك ما دعوتَني ورجوتَني، غفرتُ لك على ما كان فيك ولا أُبالي، يا ابن آدم، لو بلَغَتْ ذُنوبُك عنانَ السماء، ثمَّ استغفرتَني غفَرْتُ لَك ولا أُبالي، يا ابن آدَمَ، إنَّك لو أتيتني بقُراب الأرض خطايا، ثم لقيتَني لا تُشرِك بي شيئًا، لأتيتُك بقُرابها مَغْفِرةً))؛ [حديث صحيح، صحيح الترمذي، للألباني].
روى الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يحكي عن ربِّه عز وجل قال: ((أذْنَبَ عبْدٌ ذَنْبًا، فقال: اللهم اغْفِرْ لي ذنبي، فقال تبارك وتعالى: أذْنَبَ عَبْدي ذَنْبًا، فعلِمَ أنَّ له ربًّا يغفِر الذَّنْبَ، ويأخُذ بالذَّنْب، ثم عاد فأذْنَبَ، فقال: أي رب، اغْفِرْ لي ذَنْبي، فقال تبارك وتعالى: عبدي أذْنَبَ ذَنْبًا، فعلِمَ أنَّ له ربًّا يغفِرُ الذَّنْبَ، ويأخُذُ بالذَّنْب، ثم عاد فأذْنَبَ، فقال: أي رب، اغْفِرْ لي ذنبي، فقال تبارك وتعالى: أذْنَبَ عبدي ذَنْبًا، فعَلِمَ أنَّ له ربًّا يغْفِرُ الذَّنْبَ، ويأخُذ بالذَّنْب، اعمَلْ ما شئِتَ؛ فقد غفَرْتُ لَكَ))؛ [البخاري ومسلم].
خامسًا: هل بعد الاطلاع على الأدلة السابقة يبقى في قلب مؤمنٍ يأسٌ من رحمة الله سبحانه، ومن قبوله للتوبة؟ ولذا نقول لكِ: لا تيأسي أبدًا، بل أيقني أنه مع الإخلاص تُقبل توبتكِ، بل وأعظم منها تُقلب سيئاتكِ في ميزانكِ إلى حسنات؛ بدليل قوله عز وجل: ﴿ وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا * إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا * وَمَن تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا ﴾ [الفرقان: 68 – 71].
فانظري كيف وعد الله من تاب مِنَ المعاصي العظيمة - الشرك والزنا وقتل النفس بغير حقٍّ - وعدهم الله بقبول توبتهم، بل وأعظم من ذلك بإبدال سيئاتهم في ميزانهم إلى حسنات.
سادسًا: أبشري بالخير، واستمري على ما كنتِ عليه من عبادات وتلاوات وحفظ، فلا يحبط لكِ منها شيء، ما دمتِ مخلصة لله سبحانه.
حفظكِ الله من مكائد الشيطان ووساوسه، وتقبل الله توبتكِ، وصلِّ اللهم على نبينا محمد ومن والاه.