بات محقاً السؤال عن مدى قدرة الولايات المتحدة في الضغط المؤثر على إسرائيل الممعنة في حربها الهيستيرية الوحشية على حركة «حماس» في قطاع غزة، التي حصدت آلاف المدنيين، وتسببت في دمار يفوق الوصف.
نداءات وقف إطلاق النار والهدن الإنسانية واحترام قوانين الحرب وحماية المدنيين التي صدرت عن جميع دول العالم والمنظمات الدولية لم تلقَ آذاناً صاغية في إسرائيل، وحتى دعوات وضغوط واشنطن، الداعم والحليف الرئيس لإسرائيل، للهدنة الإنسانية والتخفيف من معاناة المدنيين وحمايتهم، والتحوط من توسيع القتال إلى جبهات أخرى، ذهبت هي أيضاً أدراج الرياح. ويبدو أن قرار مجلس الأمن، الأربعاء الفائت، الذي يدعو إلى «هدنات وممرات إنسانية» سيلاقي المصير نفسه.
الإجابة عن أسباب عدم فعالية الضغوط الأميركية معقدة ومركبة، منها أميركية وأخرى إسرائيلية وبعضها يرجع إلى «حماس» وحلفائها في المحور الإيراني.
هل يعقل أن تكون الولايات المتحدة غير قادرة على لجم الجنون الإسرائيلي، وهي التي كانت حاضرة بقادتها ومسؤوليها منذ الأيام الأولى للحرب، وحشدت أساطيل لحماية إسرائيل وردع أعدائها، وزوَّدتها -ولا تزال- بأحدث الأسلحة، مغدقة عليها 14 مليار دولار من المساعدات؟
يجدر أولاً عدم الاستهانة بالعوامل الأميركية الداخلية، أو ما تسمى في واشنطن وحدة التجاذب السياسي التي من شأنها أن تحد من تحرك الإدارة، فضلاً عن التباينات داخلها، في مقاربة هذا الملف، وباتت معلنة، مع عامل الانتخابات الرئاسية المقبلة. وإذا تجاوزنا الداخل الأميركي، تبرز القناعة الأميركية، وهي أيضاً محط إجماع أميركي داخلي وغربي بعامة، بعدم القبول بعودة غزة إلى الوضع الذي كان سائداً قبل عملية 7 أكتوبر (تشرين الأول) واستمرار «حماس» كقوة سياسية وعسكرية في القطاع. ودرجت العادة أن تعمد المنظمات من خارج الدولة كـ«حماس» و«الجهاد» و«حزب الله» إلى إعلان النصر، لتبني عليه سياساتها لمجرد بقائها على قيد الحياة، مهما كان حجم الخسائر البشرية والمادية التي تسببت فيها. ما يعني بالنسبة للأميركيين والأوروبيين وغيرهم، أن بقاء «حماس» يعني انتصاراً لمحور إيران والمقاومة، مع كل ما سوف يرتبه ذلك من نتائج على أمن المنطقة واستقرارها، وتعريض عدد من دولها لعمليات في المستقبل على غرار «طوفان الأقصى» ضد إسرائيل وغيرها في الإقليم. هذا إلى جانب تداعيات انتصار «حماس» الفلسطينية، والتي تطول مستقبل «منظمة التحرير» والسلطة الفلسطينية، وتعزز أسلمة القضية الفلسطينية والفكر المتشدد العنيف والمؤدلج، ما من شأنه تضييق مساحات السلام والتسويات في المنطقة مع إسرائيل، وتهديد مصالح الاعتدال العربي سياسياً واقتصادياً واجتماعياً، ويفتح الأبواب مشرعة للنزاعات والحروب الداخلية وبين دول المنطقة.
الأسباب الإسرائيلية كثيرة أيضاً، أولها حجم الصدمة التي تعرض لها الجيش والمواطنون الإسرائيليون جراء عملية «حماس»، وفداحة الخسائر البشرية، والمفاجأة بقدرات «حماس» العسكرية والتخطيطية. إلى ذلك، يدخل عنصر العنجهية والغطرسة المعهودة عند بعض القادة الإسرائيليين من مدنيين وعسكريين، وأيضاً الخلافات البينية الواضحة إثر حركات الاحتجاج على سياسات الحكومة اليمينية ورئيسها، وبعضهم يُرجع ما حل بإسرائيل لهذه السياسات. وفي السياق نفسه، يسعى بنيامين نتنياهو المسكون بهواجس شخصية متعلقة بمستقبله بعد نهاية الحرب إلى إطالة أمدها وتسعير همجيتها، ولعله يهدف من ذلك توريط الولايات المتحدة بحرب إقليمية تشمل إيران، وتجعل من أخطائه غير ذات أهمية مقارنة بنتائج هذه الحرب.
وإذا أردنا الغوص أكثر في تفكير غالبية الإسرائيليين؛ لا سيما من هم في صناعة القرار، تبرز إشكاليتان أو عقبتان أمام وقف القتال، وبالتالي السلام الدائم في المستقبل: الأولى هي عدم الاطمئنان المزمن والمَرَضي إلى دولة فلسطينية على الحدود مع إسرائيل ولو منزوعة السلاح، وعدم القناعة بحقوق الشعب الفلسطيني وحتمية استرجاعها وتحقيق استقلاله على أرضه. وما قاله وزير المالية بتسلئيل سموتريتش بشأن ترحيل الفلسطينيين خارج أرض فلسطين ودفع تعويضات لهم، يعبر عن المضمر في تفكير عدد كبير لا يستهان به من الإسرائيليين.
الإشكالية أو العقبة الثانية هي العطب في التفكير الإسرائيلي بعدم القدرة أو الرغبة في فهم أهمية حل الدولتين، وإعطاء الفلسطينيين بعضاً من حقوقهم السليبة والمشروعة، في احتواء أدوار إيران والحد من خطرها على إسرائيل ودول المنطقة. عدم الوعي هذا مرده عدم اقتناع غالبية الإسرائيليين بأهمية سحب ورقة فلسطين من يد إيران وحلفائها، بحيث لا تبقى لهم حجة في التسلح وإنشاء مزيد من الفصائل والميليشيات والتحشيد الفكري العقائدي المتشدد بحجة محاربة إسرائيل. عندها، تفقد إيران كثيراً من أدواتها وقدراتها سياسياً وأمنياً في المنطقة. لم يقتنع الإسرائيليون كذلك بأنه مهما بلغت المخاطر المتوقعة من دولة فلسطينية على حدودهم فستبقى أقل خطراً من التهديد الإيراني لهم وللسلام والاعتدال في المنطقة.
في مقلب «حماس» ومحور إيران، لم تبدل حرب غزة ومآسيها حرفاً من قاموسهم. لم يجف حبر مقررات القمة العربية والإسلامية في الرياض حتى أعلن الناطق باسم الخارجية الإيرانية رفض إيران لأربعة بنود من البيان الختامي للقمة، هي: حل الدولتين، والعودة إلى حدود عام 1967، واعتبار «منظمة التحرير الفلسطينية» والسلطة هما الممثل الشرعي للفلسطينيين، والمبادرة العربية لسنة 2002. بالطبع «حماس» و«حزب الله» والباقون من الممانعين ليسوا أقل تشدداً من صاحب الولاية في طهران. وبالتالي لن يصدر من طهران أو «حماس» أو «حزب الله» أي مبادرات أو أطر لمبادرات أو تفاهمات يمكن البناء عليها من قبل واشنطن أو الدول الغربية، وبالتالي إسرائيل. مواقف الحلف الممانع ليست أكثر من نسخة محدثة من مواقف وشعارات جمال عبد الناصر وحافظ الأسد وصدام حسين ومعمر القذافي، على مدى أكثر من ستين سنة، كلها فشل وتراجع ومآسٍ لشعب فلسطين.
المحصلة ترجعنا إلى دول الاعتدال العربي؛ لا سيما بعد القمة العربية والإسلامية في الرياض. فعلى الرغم من تحفظات إيران وسوريا، تبقى هذه الدول الوحيدة القادرة على أن تعلن بوضوح للأميركيين والغرب وإسرائيل عما تقبله وترفضه مرة أخيرة ونهائية، مع تحديد فترة زمنية للاستجابة الأميركية والأوروبية بالضغط على إسرائيل. المقبول والمرفوض عربياً بات معروفاً: الدولة الفلسطينية المستقلة على أرض فلسطين التي تضم الضفة الغربية وغزة بقيادة السلطة الفلسطينية، و«إجراءات خاصة» للأماكن المقدسة، وبحث تسوية للاجئين، ووقف فوري للاستيطان ولمشاريع ترحيل الفلسطينيين. ويمكن الرجوع إلى «معايير كلينتون» لسنة 2000 كي تكون أساساً لمزيد من المفاوضات.
بعد ذلك تستطيع دول الاعتدال العربي القول: «اشهدوا بأني بلغت».