إذا كان الفنان المصري عادل إمام، قد أسهم من خلال فيلمه «التجربة الدنماركية»، في الترويج الكبير لمطعمي «زيزو» و«بحة»، اللذين جاء تسميتهما ضمن الأحداث على سبيل الدعابة بـ«زيزو نتانة» و«بحه بتاع الناصرية»، إلا أن المطعمين المتخصصين في الأكل الشرقي رفضا التطوير والتغيير رغم الشهرة الكبيرة للغاية التي لحقت بهما بسبب «إفيه الزعيم» على مدار 20 عاما.
فخلافا لأفكار التسويق الإبداعية التي تلجأ إليها المطاعم لزيادة مبيعاتها، وبعيداً عن التسابق للظهور بديكورات مبتكرة يرتدي المطعم بها حلة جديدة تكون بمثابة أيقونة مميزة بين نظرائه، وبعكس التطوير الذي يشغل دوما أصحاب المطاعم لتقديم تجربة تناول طعام راقية لا تنسى، لم تنشغل محال أخرى بالتفكير في كل تلك الوسائل الترويجية التي تعمل على جذب الزبائن، مفضلة أن تكون على هيئتها وتقليديتها التي وصلت بها إلى شهرتها، وشعارها في ذلك المثل الشعبي القائل: «من فات قديمه تاه».
وتكتسب مطاعم بعينها شهرة كبيرة في مصر، تحمل في الغالب الصفة الشعبية، بل إنها تتخطى الحدود المصرية لتجتذب روادها من خارجها، ورغم ذلك تحافظ على طلتها القديمة وسيرتها الأولى التي عرفت بها منذ خطواتها الأولى، ومن ناحية أخرى تحافظ على قائمة طعامها الذي اشتهرت به، رافضة تغيير جلدها في «الشكل والمضمون»، في محاولة للحفاظ على تميمة النجاح، والحفاظ في الوقت نفسه على هوامش ربحهم.
وسواء كنت في العاصمة القاهرة، التي تزخر بآلاف المطاعم، أو في عروس المتوسط الإسكندرية التي تجتذب آلاف الزوار يومياً لمأكولاتها، نجد نماذج متعددة لتلك النوعية من المطاعم، التي تجذب بأجوائها «غير المتطورة» روادها من مختلف الفئات الاجتماعية والأعمار، ووراءها يكمن «سر» المطعم.
«الكبدة» علامة مميزة لدى مطعم «على بركة الله» - مطعم «الجحش» يقدم الفول والفلافل وخدمة تتسم بالبساطة
عودة إلى مطعمي «زيزو» و«بحة»؛ نجد أنه منذ نشأة الأول في حي الجمالية والثاني في حي السيدة زينب، منذ عقود مضت، إلا أنهما بقيا على حالهما ولم يتم تغيير شيء بهما، كما رفضا التطور والانتشار رافعين شعار: «لا توجد لنا فروع أخرى»، ورغم ذلك يجتذب المطعمان السفراء والسائحين الأجانب طمعا لتذوق «التجربة المصرية» في الطعام، فإلى جانب المصريين يجلس الجميع على الطاولات المنتشرة بالشارع، في الهواء الطلق، بما يزيد من خصوصية التجربة الشعبية. في حي السيدة أيضا يكتسب مطعم «الجحش» للفول والفلافل شهرة كبيرة رغم هيئة المطعم الشعبية، كما أن الخدمة تتسم بالبساطة دون التكلف، والزبائن تفترش الشارع من أمامه، الذين لا ينتمون إلى طبقة معينة، حيث له الزبائن من جميع الطبقات، سواء الشعبية أو الأغنياء، ورغم بعض التعليقات التي تعكسها تقييمات رواد موقع TripAdvisor (تريب أدفايزر) العالمي للسياحة والسفر، والتي لا تصب في صالح المطعم من حيث النظافة، إلا أن المطعم يقصده المشاهير والأجانب الراغبون في تذوق المأكولات الشعبية المصرية على أصولها.
على بعد خطوات من ميدان رمسيس القاهري، تجذب لافتة «على بركة الله» أنظار المارة، لتتوقف أعينهم لترصد ذلك المطعم ذا الديكورات البسيطة والذي تصطف أمامه طوابير الزبائن في مشهد مستمر على مدار الساعة، حيث يجتذب زواره لتذوق ساندويتشات الكبدة والسجق، رخيصة الثمن وذات المذاق المحبب، والذي جعلته يشتهر بأنه «ملك الكبدة الأصلي». يعود تأسيس المطعم إلى ثمانينات القرن الماضي، ومنذ نشأته تقوم فلسفته على خفض السعر، ليتمكن من تحقيق أكبر قدر من الربح، ولا نبالغ إذا قلنا إن سعر ساندويتشات الكبدة لديه هو الأرخص سعراً في مصر.
على العكس من ذلك، نجد نماذج لمطاعم غيرت من جلدها فلم تلاق النجاح المطلوب، ومنها مطعم أبو رامي للمشويات، الذي فقد كثيرا من جمهوره بعد التطور.
بالاتجاه إلى الإسكندرية؛ نجد أن الحالة ذاتها تمتد إلى مطاعم عديدة بـ«عروس المتوسط»، لاسيما مطاعم المأكولات البحرية، ومن أبرزها مطعم «شعبان بتاع السمك اللي بيقولوا عليه»، بمنطقة المنشية، الذي يتسم بالبساطة في أجوائه، بداية من اسمه الفكاهي الموضوع على واجهة سيراميكية، ومرورا بالطاولات الخشبية المخصصة لاستقبال الزبائن، وحتى أطباقه المقدمة بخلطات مميزة والرخيصة نوعا ما.
يكتسب المطعم شعبية كبيرة بين زوار الإسكندرية، وعلى الرغم من انتشار مطاعم المأكولات البحرية في المدينة، خاصة المطلة على البحر مباشرة بطول الكورنيش، فإن زبائن شعبان يقصدونه في الحارة الضيقة الموجود بها للاستمتاع بمذاقات أطباقه على الطريقة الشعبية. ويحافظ مسؤولو المطعم على شكله التقليدي، إلا أن التطوير كان مع تدشين فرع جديد له بمنطقة المكس، الذي يستهدف جذب شريحة مختلفة عن زبائن المطعم القديم. ينافس «شعبان» في شعبيته وأسماكه مطعم «حوده دونجل»، الموجود في حارة ضيقة في منطقة الأزاريطة، ورغم ذلك يعرف عشاق المأكولات البحرية الطريق إليه، تجذبهم إليه احتراف طهيها وأسعارها المناسبة للغاية، غاضين الطرف عن عشوائية المكان وعدم تكلفه.
تقليدية الشكل أيضا تمتد إلى مطعم «قلعة اللول» أو أسماك «اللول»، يقع المطعم على الرمال في منطقة المكس على البحر مباشرة أمام فنار المكس، لذا يرفع المطعم شعار «البحر جوه (داخل) المطعم»، وهو مبني بالكامل من الأخشاب، والتجربة بأكملها تشعرك بالروح المصرية الشعبية، بداية من ديكوراته البسيطة ومقاعدة الخشبية الريفية إلى طريقة الطهي المنزلية للأسماك، ومع استقبالك بروح «ولاد البلد» من السيدة «أم ميادة» المسؤولة عن إدارة المطعم، نهاية بكوب الشاي بالنعناع، الذي يفضله كثيرون بعد تناول الأكل الدسم. حول رفض بعض المطاعم التطوير من نفسها والمحافظة على تقليديتها في الشكل أو في نوع الطعام؛ يقول محمد يسري، مدير تسويق إلكتروني لعدد من المطاعم بالقاهرة، لـ«الشرق الأوسط»: بالفعل يوجد هذا الرفض للتطوير من جانب بعض المطاعم، وذلك يعود إلى أن 95 في المائة من أصحابها يكونون متقدمين في العمر، وغير مقتنعين بأهمية الجديد أو التغيير وما فرضته (السوشيال ميديا) التي جعلت الزبائن تأكل بأعينها قبل أفواهها، وقد يعود إلى أنهم غير قادرين على مواكبة التطور لأنهم لا يملكون العقلية التي تساعدهم على ذلك، أو لديهم التخوف من الانتقال للحداثة لذا يحافظون على مصدر رزقهم كما هو، في المقابل نجد أن النسبة الباقية 5 في المائة هم من يفكرون في التطور ومواكبة تغير السوق الذي يدفعهم ويفرض عليهم هذا التغيير.
ولا يتفق خبير التسويق مع ما يروج له البعض من أن الأجواء «غير المتطورة» تكون عامل جذب للجمهور أحيانا، مبينا أن عامل الجذب هذا ما هو إلا راحة نفسية لدى زبائن المطعم بحكم التعود فقط، لذا نجد من ينجذب إليها في الغالب من شرائح كبار السن أو متوسطي العمر، أما أجيال الشباب فهي تبحث دائما عن التطوير، مضيفا: «المطاعم التي تعتمد على هذه الفلسفة في إدارتها هم أول من يكونون مهددين بالغلق أو التواري عن الأنظار حتى إن طالت فترة شهرتها، فرغم المحافظة على تقليديتها فإن الوقت سيمُر وستظهر أسماء أقوى تنافسها وتسحب البساط من تحتها تدريجيا، فالتسويق يرى أن عدم اهتمام المطاعم بالتطور أو تحديث نفسها بمثابة نقطة ضعف وعامل مؤثر للغاية يهدد أكبر الأسماء».
ويؤكد يسري أن «القاعدة التسويقية تقول إن الجمهور دائماً يحب التجديد، وأمام تأثر الأجيال الجديدة بالسوشيال ميديا لابد من بحث المطاعم بشكل دائم عن التغيير والتطوير، وتلبية احتياجات العملاء الذين يستهدفهم المطعم، فالمطاعم المتمسكة بالقديم معتمدة على نجاحها الحالي دون وجود رؤية للمستقبل أو عدم وضوح ما تطمح إليه، سوف تخسر هذه الأجيال إن لم تطور من نفسها، وبالتالي سيكون الاستمرار والمنافسة في السوق صعبا عليها».