مصير الفرنكفونية في عالم متغير

منذ 1 شهر 42

من حضر أعمال القمة الفرنكفونية التاسعة عشرة التي عقدت مؤخراً في فرنسا، تحت شعار «الإبداع والابتكار وريادة الأعمال»، وبحضور العشرات من رؤساء الدول والحكومات من الدول الأعضاء في المنظمة الدولية للفرنكفونية، سيخرج بقناعة أن العديد من ممثلي الدول لم يعودوا يبيتون سراً نظرتهم السيئة تجاه اللغة الفرنسية والمنظمة الدولية للفرنكفونية في عالم تطغى عليه اللغة الإنجليزية، وملبد بالصراعات والانقسامات، وموسوم بإعادة توزيع الأدوار وويلات الحرب في الشرق الأوسط. الشاعر السنغالي الكبير أمادو لامين سال أسرّ إليّ ونحن نستمع إلى حديث قامت به وزيرة الاندماج الأفريقي والشؤون الخارجية في السنغال، السيدة ياسين فال، أن فرنسا كانت ستحافظ على قوتها لو كان رئيسها وسفراؤها في البلدان الأفريقية والعربية يستمعون إلى مفكري تلكم الدول وفنانيها وكتّابها وتجاوبوا مع مستلزمات اللحظة...

الاستعلاء اللغوي والثقافي الموروث منذ أيام الاستعمار لم يعد يغري أحداً، ولم تعد النخب في الدول الأعضاء في المنظمة الدولية للفرنكفونية تستحي من الإشارة علناً في مثل هاته الاجتماعات الرسمية إلى مساوئ الاختراق اللغوي الذي لا يعود بالخير على بلدانها وما يتركه من آثار سلبية على النسيج الاجتماعي، بل الاقتصادي والثقافي. الرئيس الفرنسي الراحل فرانسو ميتران كان قد شرح مفهوم الآيديولوجية الفرنكفونية، عندما أكد «أن الفرنكفونية ليست هي اللغة الفرنسية فحسب. إننا إذا لم نتوصل إلى الاقتناع بأن الانتماء إلى العالم الفرنكوفوني سياسياً واقتصادياً وثقافياً يمثل قيمة مضافة، فإننا سنكون قد فشلنا في العمل الذي بدأناه منذ عدة سنوات..!!» فالفرنكفونية عنده، ليست في اللغة الفرنسية، بل هو ذاك الاختراق الثقافي أو هو ذاك الانغماس في تجربة الآخر سياسياً، اقتصادياً، ثقافياً، وهو ما يعني التبعية المطلقة وليست النسبية. وبالفعل هناك فشل. وهذا ما جعل دولاً مثل مالي تخفض مكانة اللغة الفرنسية لتصبح «لغة العمل» بعد أن كانت لغة البلاد الرسمية؛ وهو ما جعل اليوم العديد من العائلات من الدول الأعضاء في المنظمة الدولية للفرنكفونية ترسل أولادها لتتمة دراستهم في الجامعات الأنغلوساكسونية بدل الفرنسية، وهو ما سمح بظهور وزراء في تلكم البلدان تكوينهم أنغلوساكوني صرف؛ كما ظهرت نخب جديدة تتحمل مسؤوليات متنوعة، ولها علاقات دولية متجذرة، غايتها البحث عن شراكات اقتصادية ومالية متكافئة ومتوازنة لصالح بلدانها، تبحث عن الندية وعن دول لا تتبنى توجهات استعلائية في علاقتها مع الآخر، ولا تحمل رسائل دعوية أو قيمية... ولهاته الأسباب وغيرها ثار الأولون والآخرون في دول غرب ووسط أفريقيا في توافق غير مسبوق ضد الوجود العسكري الفرنسي...

وما زلت أحتفظ بنصّ رسالة كان قد أرسلها إليّ المرحوم الوزير والمفكر المغربي محمد العربي المساري، تتناول جزءاً من الإشكالية التي نتدارسها في هاته المقالة، عندما أسرّ إليّ فيها أن الفرنسية كما كانت الإسبانية طيلة مائتي عام بالنسبة لمعاملاتنا الدبلوماسية والتجارية هي لغة انفتاح وتواصل، ولا يمكن التفريط فيها الآن وقد أصبحت رأسمالاً ثابتاً للمغاربة، رغم أن فرضها كان بفعل حادث سلبي هو الاستعمار؛ والتاريخ مملوء بالأحداث السلبية التي أدت إلى غير ما يسعى إليه مدبروها: «أذكر أنني طلبت من وزير الخارجية، في مقابلة اصطحبت فيها المدير السابق للقناة الثانية، وهي بعد من القطاع الخاص، أن تساهم الخارجية في دعم مالي للقناة نظراً للوقع الذي لبرامجها في أفريقيا الغربية إلى درجة ضايقت القناة الفرنسية (كنال بلوس)، أي أن الفرنسية فرصة لتعاون ثلاثي فرنسي أفريقي مغربي، فضلاً عن كونها لغة انفتاح، ولكن لا يقبل أن تتحول إلى أداة انغلاق، كما يريد غلاة التغريب...»، ومعنى أن ما يضايقنا وأصبح يمثل مظهر استفزاز ليس هو وجود الفرنسية (...) بل طغيانها الذي دفع البعض إلى فرض هيمنة احتكارية، وهكذا فإن الزيادة في الشيء نقصان، كما قال أسلافنا، وعدم التبصر لدى التمكين للفرنسية على حساب العربية هو الذي أصبح عند البعض مسألة لا تطاق...

لا يمكن فصل الفرنكفونية عن تطورها التاريخي المرتبط بالمرحلة الاستعمارية، وأيضاً بمرحلة التحرر وبالمتغيرات الجديدة، ولكن يستحيل خلق روح التعاون الإنساني ببعد كوني، إذا لم تزل من جينات الفاعلين الفرنسيين النظرة الاستعلائية، وبدأ هؤلاء باحترام الآخر والتعامل معه كندٍ، وليس كمستخدم، وتطبيق قاعدة رابح - رابح في كل شيء. إذا لم تفعل ذلك، فإن قوة دول مثل الصين وروسيا ستزداد بدرجة غير مسبوقة، خاصة في أفريقيا، وهي تتحلى بـ«التواضع» و«المسؤولية» و«الذكاء الاستراتيجي» في تثبيت علاقات وشراكات تبحث عنها تلكم البلدان، ويكفي أن تتواصل معها بأي لغة تشاء، حتى اللغة الإنجليزية التي هي الآن في خدمة الشركاء والأعداء، على السواء.