مصير الشرق الأوسط الجديد... لكن بحسابات وتوازنات جديدة

منذ 1 أسبوع 24

يشهد الشرق الأوسط أحداثاً مصيرية تأذن بالانتقال إلى نظام دولي جديد تأخر قدومه. هذا الانتقال يتم فوق أنهار من الدماء وهضاب من الدمار. التاريخ يشي بأن الانتقال السياسي ممره الإلزامي بوابة الدم والدمار هذه. هكذا كانت بوابة الحرب العالمية الثانية التي حصدت ملايين الأرواح ودمار الكوكب. إثر اندلاعها، صرّح ونستون تشرشل، رئيس وزراء بريطانيا العظمى، مخاطباً مجلس العموم البريطاني القابع تحت القصف الألماني قائلاً: «ليس لديّ ما أقدّمه سوى الدم والدموع والعرق».

في عالمنا العربي الكثير من الدم والدموع والعرق الذي ما انكفأ يذرف. لكن رحلة الانتقال هذه، عبر بوابة الدم والدمار، تتطلب التفكير بعقل بارد. وتستدعي التفكير خارج «الكادر» رغم الآلام التي تمر بها المنطقة.

في عالم السياسة البارد، يُقاس الحدث وتأثيره على الناس والعلاقات الدولية والإقليمية ومعها مؤسسات الدول بمعيار كثافته وليس توقيته أو مدته. وحتماً لا يُقاس بحجم الدمار أو القتل، وهو ما أشار إليه العالم السياسي والمؤرخ إريك هوبسباوم في نظرياته المتعددة. وإذا رجعنا إلى القرن العشرين سنجد أن ستة في المائة من عمره كانت كفيلة بإعادة رسم خريطة الكوكب. هي أحداث الحربين العالميتين الأولى والثانية التي أذنت بالانتقال إلى حقبة الحرب الباردة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي طيلة خمسة عقود ونيف.

ومنذ الباردة في مطلع تسعينات القرن الماضي، برزت الولايات المتحدة قوةً عظمى وحيدة، متفوقة اقتصادياً وعسكرياً. استطاعت تعزيز نفوذها من خلال شبكة من التحالفات السياسية والعسكرية والمؤسسات الاقتصادية الدولية (مثل صندوق النقد الدولي ومنظمة التجارة العالمية إلخ...). وقد تميزت السياسة الأميركية منذ التسعينات بفرض النظام العالمي القائم على الديمقراطية الليبرالية (ثم النيوليبرالية) واقتصاد السوق، واستطاعت إلى حد كبير فرض رؤيتها عالمياً، خصوصاً في أوروبا وآسيا. هي حقبة الهيمنة الأميركية على شؤون العالم التي سرعان ما وجدت نفسها تواجه مرحلة جديدة مع أحداث الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) 2001. لكن غواية القوة الأميركية طغت على حدودها وقدراتها. فنزلت إلى البر الآسيوي غازية ومحتلة في أفغانستان والعراق. في الحقيقة، هي نزلت إلى البر تمهيداً لفتح أبواب آسيا على مصراعيها. نزولٌ فاقم التحديات بدلاً من تثبيت المكاسب. الصعود الصيني والمناكفة الروسية وتمدد الأذرع الإيرانية والتوجس الأوروبي وغيرها من التحديات عطّلت القوة الأميركية على الأرض الآسيوية.

يُعدّ الغزو الروسي لأوكرانيا في فبراير (شباط) 2022 أحد أهم التحديات التي واجهتها الولايات المتحدة وحلف «الناتو» منذ نهاية الحرب الباردة. ورغم أن هذا التحدي كشف عن أمرين متلازمين، أولهما عدم وجود تقدير روسي جيد للإمكانات الذاتية كما لإمكانات الخصم، والآخر عجز أميركا عن ردع روسيا قبل وقوع الحرب، فإن الاستجابة السريعة من خلال فرض عقوبات شاملة على روسيا وتقديم دعم عسكري واقتصادي واسع لأوكرانيا أظهرا استمرار الهيمنة الأميركية على المشهد الأوروبي. حيث قامت واشنطن بدور محوري في حشد الدعم لأوكرانيا وتنسيق العقوبات الاقتصادية ضد روسيا.

وعلى الرغم من التوترات السابقة بين الولايات المتحدة وحلفائها الأوروبيين خلال حقبة دونالد ترمب الأولى، نجحت الإدارة الأميركية الحالية في توحيد الصف الأوروبي ضد روسيا؛ مما أعاد إليها دور القيادة التقليدي في القارة الأوروبية.

ثمة تحديات مستقبلية تواجه أميركا الترمبية رغم النجاح في خلق حرب استنزاف لروسيا في الساحة الأوروبية. هناك تحديات استراتيجية، مثل ارتفاع تكاليف الدعم العسكري والاقتصادي والمالي لأوكرانيا، فضلاً عن إمكانية ظهور تيارات سياسية في أوروبا تميل للسلام مع روسيا على حساب الدعم الأميركي. على سبيل المثال، إقالة المستشار الألماني لوزير ماليته بسبب اعتراضه على سياسة استمرار الدعم المالي الألماني لكييف. يستوجب ذلك كله رصد المرحلة المقبلة وقدرة ترمب على تنفيذ تعهداته بوقف الحرب الأوكرانية، سواء من خلال تثبيت الوقائع السياسية والعسكرية، قبل الذهاب نحو استفتاءات هنا وهناك في أفق زمني يبدأ بعد انتهاء ولايته الثانية والأخيرة، أو من خلال استخدام وسائل ضغط على الطرفين للانخراط في مفاوضات برعاية أميركية.

أما على ساحة الشرق الأوسط، فإن التحولات تبدو أكثر عمقاً. الشرق الأوسط يُعدُّ منطقة نفوذ تقليدي للولايات المتحدة بسبب أهميته الجيوسياسية والاقتصادية، خصوصاً مع احتياطيات النفط الضخمة. لكن في السنوات الأخيرة، شهدنا تغيرات ملموسة في الاستراتيجية الأميركية تجاه المنطقة، مدفوعة بسياسات استراتيجية عدة. أولها، التوجه نحو آسيا. حين بدأت الولايات المتحدة في تحويل اهتمامها نحو آسيا والمحيط الهادئ لمواجهة النفوذ المتزايد للصين؛ ما أدى إلى تراجع نسبي في اهتمامها بالشرق الأوسط. ثانيها، تقليل الاعتماد، وبالتالي تراجع اعتماد واشنطن على نفط الشرق الأوسط مما عزز من التزامها العسكري والسياسي في التوجه شرقاً إلى آسيا. أدى ذلك إلى صعود قوى إقليمية جديدة على طول ساحة الشرق الأوسط. استغلت كل من روسيا والصين وإيران تراجع النفوذ الأميركي لزيادة حضورها في المنطقة. فروسيا دعمت النظام السوري بشكل مباشر، والصين عقدت صفقات اقتصادية مع دول الخليج. وإيران نسجت من البوابة الشرقية للعرب نفوذاً بلغ ذروته بالإقامة عند ضفاف البحر الأبيض المتوسط.

وعلى الرغم من انشغال روسيا بالحرب في أوكرانيا، فإنها لا تزال تحتفظ بنفوذ مهم في الشرق الأوسط، خصوصاً في سوريا. وقد استغلت روسيا حربها مع أوكرانيا لزيادة تعاونها العسكري والاقتصادي مع دول إقليمية على حساب الولايات المتحدة. بينما تسعى الصين إلى تعزيز حضورها في الشرق الأوسط من خلال مبادرات مثل «الحزام والطريق» وعقد شراكات اقتصادية طويلة الأجل مع دول الخليج، مما يُعدُّ تحدياً للنفوذ الأميركي التقليدي في المنطقة. ومن تداعيات الحرب في أوكرانيا على الشرق الأوسط أن كان لها تأثير ملحوظ على ديناميكيات القوة في الشرق الأوسط، لا سيما ما يتعلق بعلاقة أميركا مع حلفائها التقليديين. سعت بعض الدول في الشرق الأوسط، مثل السعودية والإمارات، إلى تبني موقف مزدوج يجمع بين الاستقلالية من الصراع الأوكراني، مع تردد في الانحياز الكامل للموقف الأميركي بسبب العلاقات الاقتصادية القوية مع روسيا (تنامي ظاهرة «أوبك بلاس»).

إن رحلة البحث عن توازن للقوى في عالم متغير تدفعنا إلى مراجعة مراكز القوى في الشرق الأوسط، لا سيما الأميركية والإسرائيلية.

القوة الأميركية: والتر ليبمان وهنري كيسنجر وبرنت سكوكروفت رجال ساهموا في صياغة القوة الأميركية. تدين الإمبراطورية الأميركية لهؤلاء الرجال بكفاءة التخطيط الاستراتيجي والمواءمة بين السلاح والسياسة. فقد وصف ليبمان، الصحافي والمفكر (في تلك الأيام كان الصحافيون مفكرين)، شخصية الإمبراطورية الأميركية بأنها «دولة بحرية»، وأن نفوذها المترامي الأطراف «يُحاكي حركة المد والجزر». أما كيسنجر، فقد أقرّ في شريان البيروقراطية الأميركية بأن هناك سياسة خارجية أميركية وليس هناك قرارات متعلقة بالشؤون الخارجية. شأنه في ذلك شأن المدرسة التقليدية في العلوم السياسية. جاء سكوكروفت الذي قال إن العلاقات بين القوى العظمى هي التي تصنع الواقع السياسي وليس العكس... ومن خلال ذلك تتم ممارسة القوة الأميركية.

ومنذ الغزو الأميركي للعراق عام 2003، رأينا قوة واشنطن تتصارع في رمال متحركة. محاولة الهيمنة صارت عبارة عن مأزق. قرّرت الدولة العميقة سحب قواتها من البر إلى البحر. فسّر الخصوم ذلك علامة على تراجع النفوذ الأميركي. في الحقيقة عادت أميركا تمارس شخصيتها البحرية. دورة يعود تاريخها إلى حروب كوريا وفيتنام وأفغانستان والعراق، وبالطبع حرب الخليج الأولى التي تزامنت مع انهيار الاتحاد السوفيتي. دورة مضللة للخصوم كما للحلفاء.

غير أن عملية صنع القرار في الولايات المتحدة، وبالتالي توظيف هذه القوة لا يخضع للأشخاص. تخضع العملية لممارسة صارمة من قِبل بيروقراطية متشعبة ومتنفذة. لا يكون فيها لحسابات الرغبة هامش كبير. تحديداً في اتخاذ قرارات من وزن استراتيجي ثقيل. فقد طور الآباء المؤسسون للولايات المتحدة جنباً إلى جنب مع الممارسة الطويلة للبيروقراطية آلية دستور يخلق آلية لصنع السياسات وليس القرارات المتعلقة بالشؤون الخارجية. يتعين على مجموعة من المؤسسات والإدارات المتجذرة في البيروقراطية الأميركية أن تعمل معاً لصنع السياسات... كأنها روح تسكن هذا الجسد البحري المترامي الأطراف وصاحب القوة الخارقة.

عملياً؛ لا تزال الولايات المتحدة قوة عظمى ذات نفوذ واسع في أوروبا والشرق الأوسط. صحيح أنها تواجه تحديات غير مسبوقة بسبب صعود قوى جديدة وتغير الأولويات الجيوسياسية. الحرب في أوكرانيا كانت اختباراً لمدى قدرة الولايات المتحدة على الحفاظ على قيادتها للنظام العالمي في وجه التحديات الروسية، في حين أن الشرق الأوسط هو اختبار لدورها المستجد في حال خسرت المعركة في أوروبا أمام روسيا. السؤال يبقى ما إذا كانت الولايات المتحدة ستتمكن من التكيف مع هذه التغيرات والبقاء في موقع القوة المهيمنة أم ستواجه تراجعاً تدريجياً في نفوذها وصولاً إلى الانتقال إلى نظام دولي جديد؟

بالنسبة للقوة الإسرائيلية، يأخذنا الحديث إلى مستقبل القوة الإسرائيلية. هذا المستقبل أصبح أكثر التصاقاً بمصير القوة الأميركية. فإذا ما أخذنا الرسم البياني لهذه القوة منذ قيام دولة إسرائيل عام 1948 فسنجد أنها وصلت إلى الذروة في حرب عام 1967. إسرائيل منذ السابع من أكتوبر (تشرين الأول) 2023 في حالة انحدار. هذا لا يعني أنها مهزومة، لكن هذا يعني أن وظيفتها على الخريطة الاستراتيجية ربطاً بالقوة الأميركية ستخضع للمراجعة. مما يجعل مصيرها ملتحماً بمآلات القوة الأميركية على الساحة الأوكرانية، وكذلك الصعود الصيني في آسيا.

في السنوات الأخيرة، أصبحت إسرائيل تواجه تحديات متزايدة عطَّلت بشكل مباشر قوتها البرية على جبهات عدة. «حزب الله» في لبنان، الفصائل المسلحة في غزة. ناهيك عن التهديد الإيراني الصاروخي والنووي المتنامي. يبدو أن القوة الإسرائيلية صنفت غزة بأنها ساحة قتال مفتوحة. وسمة هذه الساحة معارك بين الحروب أو حروب بين المعارك!

أما الساحة اللبنانية فالحساب مكشوف من دون المقدرة على الحسم. وتُعدّ الحدود اللبنانية واحدة من أكثر الجبهات خطورة على إسرائيل، حيث يُشكل «حزب الله» تهديداً مباشراً بفضل قدراته العسكرية وتطويره ترسانةً من الصواريخ الدقيقة. من المرجح أن يعتمد «حزب الله» استراتيجية حرب الاستنزاف التي تعتمد على القصف الصاروخي المتواصل ضد المستوطنات الإسرائيلية؛ ما يفرض ضغطاً على الجبهة الداخلية لإسرائيل. من جهة أخرى، قد تستمر إسرائيل في استخدام الضربات الجوية في محاولة لتدمير مواقع الحزب وتقييد قدراته، لا سيما إمكانات مراكمتها مستقبلاً عبر حدود لبنان البرية والجوية والبحرية...

ترى إسرائيل في امتلاك إيران السلاح النووي خطراً وجودياً عليها التي من المتوقع أن تستمر في شنّ ضربات سرية أو سيبرانية على المنشآت النووية الإيرانية لمنعها من تحقيق هذا الهدف. بالإضافة إلى هذا، تعدّ سوريا ساحة مواجهة أخرى بين إيران وإسرائيل، حيث تقوم إسرائيل بشنّ غارات جوية دورية على مواقع إيرانية في سوريا لمنع تدفق الأسلحة إلى «حزب الله» وتقليص النفوذ الإيراني بالقرب من حدودها.

وفي ظل تغير التحالفات الدولية الذي بدوره يضع عبئاً على دعم الولايات المتحدة اللامحدود لإسرائيل، تعتمد إسرائيل بشكل كبير على دعم الولايات المتحدة، سواء من خلال المساعدات العسكرية أو الدعم الدبلوماسي في المحافل الدولية. وعلى الرغم من الدعم الأميركي المستمر، قد تواجه العلاقات بعض التوترات بسبب تغير الأولويات الأميركية والتركيز المتزايد على آسيا والمحيط الهادئ لمواجهة الصين؛ ما قد يؤدي إلى تراجع الاهتمام الأميركي بالشرق الأوسط وتخفيف الدعم لإسرائيل في المرحلة المقبلة.

أمام مستقبل القوة الإسرائيلية سيناريوهات عدة محتملة في ظل تعدد الجبهات والمخاطر الإقليمية. يمكن أن تواجه إسرائيل خلال السنوات المقبلة التصعيد الشامل في حال اندلاع صراع شامل على جبهات عدة (لبنان، وغزة وإيران)، ستجد إسرائيل نفسها في وضع صعب يتطلب توجيه مواردها العسكرية والاستخباراتية لمواجهة تهديدات متعددة. قد يؤدي هذا التصعيد إلى خسائر كبيرة على الجبهة الداخلية الإسرائيلية وإلى تدخل دولي لوقف النزاع أو استمرار حرب الاستنزاف الطويلة.

قد تواجه إسرائيل حرباً تمتد على سنوات، تشمل هجمات صاروخية دورية وعمليات تسلل على حدودها. سيؤدي هذا السيناريو إلى استنزاف الموارد الاقتصادية والعسكرية لإسرائيل وزيادة الضغط على الحكومة الإسرائيلية. والسيناريو الأخير هو التفاوض والتهدئة. في حال تزايد الضغط الدولي والمحلي، قد تجد إسرائيل نفسها مضطرة إلى الانخراط في محادثات لتهدئة التوترات مع الفصائل الفلسطينية و«حزب الله» وحتى مع إيران عبر وساطات دولية، خصوصاً إذا تبين أن الاستمرار في النهج العسكري سيؤدي إلى تدهور الوضع الأمني والاقتصادي في المنطقة.

تظل إسرائيل قوة إقليمية بارزة بفضل تفوقها العسكري والاستخباراتي، لكنها تواجه تحديات غير مسبوقة على جبهات عدة؛ ما يضعها أمام خيارات صعبة ومعقدة. سيعتمد مستقبل قوتها ونفوذها إلى حد كبير على قدرتها على التكيف مع التغيرات السريعة في الشرق الأوسط، وعلى مدى فاعليتها في الحفاظ على تفوقها العسكري مع تجنب تصعيد شامل قد يؤدي إلى تآكل دعمها الدولي وإضعاف استقرارها الداخلي.

أما فيما يتعلق بالقوة الإيرانية، فتبرز تساؤلات عن مستقبل قوة إيران، وبالتالي نفوذها في الشرق الأوسط. من المحتمل أن تشهد المنطقة سيناريوهات عدة. أو مسارات عدة متوازية في عملية تخادم فيما بينهما. أولاً تعزيز النفوذ عبر تزخيم الحركات المسلحة في المحور. ومما لا شك فيه أن القوة الإيرانية بشخصيتها المستمدة من جغرافيتها وتاريخها تجنح إلى العمل السري ولا تستدرج إلى العلن. فهذه الهضبة المطلة على قلب آسيا وتشابكها مع المضائق المائية تبحث عن تثبيت نفوذها وليس توسيعه. مرة أخرى، في الميزان الاستراتيجي هذا يعني أن طهران في حالة الدفاع وليس الهجوم. وهو عكس موقعها أثناء حرب لبنان تموز (يوليو) 2006. اليوم القوة الإيرانية تسعى لتعويض الخسائر المحتملة في نفوذها بتعزيز دعمها لميليشياتها.

تجد إيران نفسها مضطرة إلى ملاقاة المسار التفاوضي تحت سقف استراتيجيتها وتوجهها نحو التفاوض مع القوى الدولية والإقليمية الصاعدة، خصوصاً في ظل تصاعد الضغوط الاقتصادية والسياسية عليها. وحين تسعى الولايات المتحدة وإسرائيل إلى تقليص النفوذ الإيراني في المنطقة من خلال العقوبات الاقتصادية والضربات العسكرية على مواقع إيرانية في سوريا والعراق وغزة ولبنان. من هذه الزاوية يمكن النظر إلى الحرب الدائرة في الشرق الأوسط. ومن هذه الزاوية يمكن فهم حركة الدبلوماسية الأميركية النشطة في المنطقة. ومن المحتمل أيضاً أن تسعى طهران للتوصل إلى اتفاقيات أمنية مرحلية تُخفف من التوترات، خصوصاً مع السعودية ودول الخليج.

المساران أعلاه يخدمان مواصلة التصعيد والمواجهة مع إسرائيل. لا نزال عند مرحلة الرد على الرد. في نوع جديد من الحروب التي تدخل التاريخ العسكري بكثير من التساؤلات لناحية تأثيرها في موازين القوى وتحقيق الأهداف. حتى إشعار آخر، وبحسب العلوم العسكرية لا يمكن تحقيق نصر من دون عمليات برية. موقع إيران الجغرافي يسمح لها بمواصلة الرد على الرد ما دام لا رغبة أميركية في النزول إلى البر ولا قدرة إسرائيلية على ذلك أيضاً. عندها يمكن توقع استمرار المواجهة المباشرة بين إيران وإسرائيل في المنطقة.

كل ذلك لا يلغي أنه من المتوقع أن تظل إيران قوة إقليمية مؤثرة في الشرق الأوسط. لكنها في مرحلة إعادة تموضع. ستواجه تحديات غير مسبوقة بعد التطورات الأخيرة في المنطقة. قد تُشكّل سيولة الأحداث نقطة تحول في استراتيجيات إيران، إما نحو المزيد من التصعيد والمواجهة، أو نحو التفاوض وإعادة تقييم أدواتها لتحقيق أهدافها الإقليمية. في نهاية المطاف، سيعتمد مستقبل النفوذ الإيراني على قدرتها على التكيف مع التغيرات المتسارعة في المنطقة، وعلى مدى قدرتها على الحفاظ على تحالفاتها الإقليمية ودعم حلفائها في مواجهة الضغوط العسكرية المتزايدة عليهم، لا سيما في لبنان وفلسطين.

وعن مآلات للحرب في الشرق الأوسط، هناك احتمالان لا ثالث لهما قد يؤديان إلى إنهاء الصراع بشكل مستدام. الأول هو الحل الدبلوماسي الشامل. والآخر هو توازن القوى والردع بين إيران وإسرائيل. لكلا الاحتمالين شروطه وتكاليفه على المنطقة. إلا أن الخيار ليس محصوراً بنتائج هذه الجولة من المواجهات. بل نتاج تراكمات تبدأ من وسط أوروبا في أوكرانيا ولا تنتهي في الشرق الأوسط.

إحدى الطرق الأكثر استعصاءً لإنهاء الحرب في الشرق الأوسط هي من خلال حل دبلوماسي يشمل جميع الأطراف الرئيسية في النزاع، بما في ذلك القوى الإقليمية والدولية. يتطلب هذا السيناريو وجود إرادة سياسية حقيقية لدى جميع الأطراف المعنية للتفاوض والتوصل إلى حلول وسطية. وفي ظل غياب هذه الإرادة فمن غير المتوقع أن تكون نسبة هذا المسار واقعية. أساساً، هذا المسار يحتاج إلى بيئة استراتيجية يتقدم فيها السياسي على السلاح. وتتقدم فيها المصالح على الآيديولوجيا. وفوق كل ذلك رافعة دولية تتماهى مع هذه البيئة. الاتفاقيات الدولية والإقليمية يمكن أن يتم التوصل إليها من اتفاقيات متعددة الأطراف تشمل وقف إطلاق النار، وتبادل الأسرى، وتقديم ضمانات أمنية للأطراف المتنازعة. الذي بدوره يصنع إطاراً للتفاوض.

أما الاحتمال الآخر الذي يتم عند الوصول إلى نقطة التوازن بين القوى من خلال الردع المتبادل بين إسرائيل وإيران. فقد يؤدي الوصول إلى توازن في القوى إلى تهدئة النزاعات تدريجياً. حيث يتطلب هذا السيناريو إعادة تشكيل موازين القوى بحيث لا تكون هناك دولة أو تحالف يملك القدرة على التفوق الكامل على الآخرين؛ مما يدفع الجميع للبحث عن حلول تفاوضية. الذي بدوره يفتح الشهية على سباق تسلح إقليمي. مسار قد يصنع التوازن العسكري المطلوب بين إيران وإسرائيل. هذا سيناريو يضعنا أمام وضع مشابه للحرب الباردة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي، حيث كان التوازن النووي يردع الطرفين عن شن هجوم مباشر.

وفي كلا الاحتمالين وفي المدى المنظور نحن أمام حالة استنزاف ويمكن الاقتراب من النهاية عندما تُنهك جميع الأطراف وتستنزف قدراتها العسكرية والاقتصادية؛ ما يدفعها للبحث عن مخرج دبلوماسي أو سياسي. وبالنظر إلى الساحات ومواقع القوى على الخريطة يبدو أننا في الثلث الأخير من هذه الحرب. فالإنهاك الاقتصادي بلغ مداه لكل الأطراف. ذلك أن الصراعات الطويلة تُكلف الأطراف المتنازعة موارد ضخمة، سواء من حيث الأموال أو الأفراد. وأيضاً الإنهاك والتعب الشعبي. قد يلعب الرأي العام المحلي دوراً كبيراً في الضغط على الحكومات لوقف الحروب، خصوصاً مع تزايد الخسائر البشرية وتدهور الأوضاع المعيشية. مما يستجلب التدخل الدولي للتهدئة.

على الأكيد أننا أمام مستقبل معقد وغير واضح المعالم. الصراعات في الشرق الأوسط ليست وليدة اللحظة، بل هي نتاج تراكمات تاريخية ودينية وسياسية وجيوسياسية تعود إلى عقود من الزمن. المنطقة تعاني سلسلة من الأزمات المتداخلة تشمل النزاع العربي - الإسرائيلي والتوتر بين القوى الإقليمية الكبرى، مثل إيران وإسرائيل وتركيا. ومع دخول قوى دولية على خط النزاعات، مثل الولايات المتحدة وروسيا، تتعقد إمكانية إنهاء الحروب بشكل سريع.

لا توجد حلول سهلة أو سريعة لإنهاء الحروب في الشرق الأوسط، حيث تتداخل العوامل التاريخية والدينية والسياسية والجيوسياسية في تغذية الصراع. ومع ذلك، فإن الحلول المقترحة تتطلب تعاوناً إقليمياً حقيقياً وإرادة سياسية قوية. من الممكن أن يتطلب الأمر سنوات من التفاوض وبناء الثقة بين الأطراف المتعددة، لكن من دون جهود حقيقية لتحقيق النظام الإقليمي الجامع والواقي من التدخلات الخارجية، ستظل المنطقة عالقة في دوامة من الصراعات المستمرة. في النهاية، يبقى السؤال الأهم هو ما إذا كانت القوى الثلاث الأبرز مستعدة لدفع ثمن التوازن، أم أنها ستظل تدفع ثمن الحروب إلى ما لا نهاية؟