السعي نحو السلام يشتد كلما كانت الحرب واسعة وقاصمة؛ وبعد الحرب العالمية الثانية جرى إنشاء أكبر مشروع عرفته الإنسانية نحو السلام العالمي، شكَّل دفعة للقانون الدولي والاقتراب من قواعد الأمن والسلم الدوليين، وإحياء التراث الإنساني، والاحتياط من التأثير العنيف للأزمات الاقتصادية، وإنشاء وكالات متخصصة في كل المصالح المشتركة للإنسانية. الحصاد لكل ذلك لم يكن مثالياً، فقد حدثت حروب إقليمية كثيرة طالت أوروبا ذاتها مؤخراً، ولكن حتى الآن لم تحدث حرب عالمية أخرى، وبقي السلام النووي في غمده منذ انفجاره في هيروشيما وناغازاكي، ونجح البشر معاً في مقاومة الأوبئة، ووصلت معدلات التجارة العالمية إلى ما لم تعرفه البشرية في تاريخها. حرب فيتنام لم تكن متعلقة بفيتنام وحدها، ولكنها شملت كل إقليم جنوب شرقي آسيا، وتورطت فيها قوة عظمى؛ ولكنها كانت بمثابة دعوة إلى يقظة كبرى كانت اليابان قد بلغتها، ولكنها استنفرت الصين ودول جنوب شرقي آسيا ابتداءً من سبعينات القرن الماضي وحتى الآن؛ لكي تقيم السلام بينها، وتدفع بأمم كاملة على طريق التنمية والرخاء. في حضن تجربتَي الحرب نبتت أكبر المشروعات الإقليمية للسلام والأمن في العالم، في أوروبا ظهر الاتحاد الأوروبي، وفي آسيا ظهرت منظمة «آسيان». الآن، وبعد حرب غزة الخامسة التي لم تعد حرباً تخص عودة الاحتلال الإسرائيلي إليها فقط، وإنما امتدت إلى لبنان وسوريا والعراق واليمن وإيران وخطوط التجارة في البحر الأحمر والبحر المتوسط وقناة السويس والخليج، خطفت الحرب الاهتمام السياسي والأمني في كل الدول العربية ومعها تركيا.
الأمر على هذا النحو يحتاج ليس فقط إلى مبادرة عربية للسلام مثل تلك المطروحة منذ القمة العربية في بيروت عام 2002؛ وإنما إلى مشروع عربي للسلام والأمن في المنطقة يوجد فيه ما هو أكثر من التعرض للقضية الفلسطينية مبادلة الأرض بالسلام. المشروع العربي فيه ضرورة تنبثق من المتغيرات الجديدة في العالم وفي مقدمتها انتخاب دونالد ترمب رئيساً للولايات المتحدة باختيار غير مسبوق للشعب الأميركي الذي صوَّت له رغم الإدانات القانونية والأحكام القضائية. التوقعات كلها تشير إلى أن ترمب2 ليس مثل ترمب1، ولكن ذلك ليس بصورة مطلقة. ترمب في فترته الأولى قدم لنا طريقاً للتسوية في الشرق الأوسط قوامه «التطبيع»، وفرَض أمراً واقعاً في القدس، ولكنه لم يضع حلاً للقضية الفلسطينية أكثر من تسهيلات اقتصادية. مثل ذلك خلق حالة مواتية لتيارات العنف والراديكالية الدينية التي نمت وازدهرت في فلسطين وفي إسرائيل معاً. ترمب الثاني أسهم في وقف إطلاق النار، ولكنه لم يلقِ بإشارته إلا في تيار «السلام الإبراهيمي» وكفى، وهي ما يعني عودة إلى النقطة التي خرجت منها شرارة الحرب. علامات ترمب الأخرى في الشرق الأوسط تعطي قدراً كبيراً من الاهتمام للطاقة، حيث وعد خلال يومه الأول في البيت الأبيض بأنه سيعمل جاهداً على ملء الاحتياطيات الاستراتيجية من النفط، وتصدير الطاقة الأميركية إلى جميع أنحاء العالم؛ ووضعه خطة يستهدف من خلالها تعزيز إنتاج النفط والغاز في الولايات المتحدة، بما في ذلك خروج واشنطن من اتفاقية باريس للمناخ، وتوقيعه على أمر تنفيذي يهدف إلى تعزيز تطوير النفط والغاز في ألاسكا، وإنهاء تأجير مزارع الرياح للأراضي، وإلغاء مذكرة بايدن عام 2023 لحظر التنقيب عن النفط في نحو 16 مليون فدان بالقطب الشمالي. باختصار، فإن هدف ترمب هو تخفيض التضخم الأميركي من خلال الخفض الشديد لأسعار النفط.
أخذاً لكل ذلك في الاعتبار، فإن المشروع العربي الإقليمي للسلام لن يكون فقط من أجل تسوية الصراع الفلسطيني - الإسرائيلي، وإنما أيضاً إقامة سوق إقليمية واسعة قائمة على التنمية والتقدم والرخاء، تعزز المصالح الوطنية للدول العربية. الطريق إلى ذلك يبدأ أولاً بإنشاء تآلف عربي للدول التي أقامت بالفعل دولة وطنية ذات هوية متميزة ولا تعرف الانشقاق أو الحرب الأهلية ولها مصلحة قائمة في السلام الإقليمي. وثانياً إعادة تشكيل النخبة السياسية الفلسطينية بحيث تخرج منها الاعتبارات الآيديولوجية ويدخل إليها الإخلاص التام لإقامة دولة وطنية فلسطينية مستقلة لا تعرف فصلاً للسلاح عن السلطة السياسية الشرعية. وثالثاً إدماج إسرائيل واستيعابها في المنطقة كدولة تشارك في بناء إقليم مزدهر يبدأ بالبناء على إقليم منتدى غاز شرق البحر الأبيض المتوسط، بإقامة إقليم آخر للرخاء المشترك في شمال البحر الأحمر يستند إلى التجربة التنموية السعودية في شمال غربي المملكة، والتجربة المصرية في شمال شرقي مصر بسيناء. الائتلاف العربي سوف يكون بمقدوره توليد مصالح مشتركة لجميع الأطراف العربية والإقليمية. الأفكار في هذا الشأن لا تنتهي!