في إحدى الكنائس في الأردن، تخيط العشرينية سارة نائل قميصاً ضمن مشروع أتاح لعشرات النساء اللواتي فررن من العنف في العراق المجاور، مهارات لكسب لقمة العيش.
نجت نساء عديدات بصعوبة من العنف المفرط الذي مارسته "دولة الخلافة" التي أعلنها تنظيم الدولة الإسلامية على مساحات واسعة من العراق وسوريا، قبل أن ينتهي بهن المطاف في الأردن يعانين للحصول على عمل.
وتنكب سارة نائل (25 عاماً)، وهي لاجئة مسيحية عراقية من بلدة قرقوش تعلمت مهنة الخياطة في الطابق الثالث في كنيسة مار يوسف في عمان، على ماكينة الخياطة في طرف المكان لتخيط قطعة قماش مشرقة زرقاء اللون تمهيدا لصنع قميص.
وتقول سارة التي وصلت إلى الأردن عام 2019 وبدأت تعمل في هذه الورشة منذ عام 2021 إن "الحياة هنا بالغة الصعوبة، وإذا لم نعمل لا نستطيع ان نعيش، فنحن عراقيون ممنوع علينا ان نعمل في أي مكان لذا أعمل هنا فيما يعمل أخي في مطبخ الكنيسة. إنه مكان آمن".
ونرى طاولات بيضاء تصطف الواحدة بجانب الأخرى، وقد وضعت فوقها العديد من الملابس المصنوعة والمطوية. وفي الزوايا وضعت ماكينات الخياطة ولفائف قماش ملونة تنتظر القص.
مشروع "رافدين" للخياطة
تُعتبر سارة واحدة من عشرات آلاف اللاجئين العراقيين الذي يقيمون في الأردن بعد أن فروا من العنف في بلدهم. وتدربت في مشروع خياطة ملابس يحمل إسم "رافدين - صنع فتيات عراقيات"، أسسه عام 2016 ماريو كورنيولي، كاهن إيطالي مقيم في الأردن.
وقام هذا الكاهن بالتعاون مع مصممين وخياطين إيطاليين بتعليم أكثر من 120 فتاة مهنة الخياطة ومساعدتهن في كسب لقمة العيش.
فرت سارة وعائلتها من بلدة قرقوش المسيحية (30 كلم شرق الموصل) إلى أربيل شمالاً في 6 آب/أغسطس 2014 بعد هجوم مقاتلي تنظيم الدولة الإسلامية.
مكثوا هناك لأربع سنوات، ولدى عودتهم تعرضوا للتهديد، فأٌجبروا على الفرار مجدداً إلى أربيل لمدة عام ثم قرروا المجيء الى عمان لطلب اللجوء من سفارة أستراليا، لكن طلبهم رفض خمس مرات، حسبما تقول.
وحين أعلن التنظيم قيام "الخلافة الاسلامية" على مساحة تفوق 240 ألف كيلومتر مربع تمتدّ بين سوريا والعراق، تحكّم مقاتلوه بمصائر سبعة ملايين شخص، وبثّ هؤلاء الرعب في مناطق سيطرتهم وفرضوا تطبيقاً صارماً جداً للشريعة الإسلامية، ونفّذوا اعتداءات وحشية قبل أن تتقلّص مساحة سيطرتهم تدريجياً.
وفي كانون الأول/ديسمبر 2017، أعلن العراق الانتصار على التنظيم الذي قام بما سماه عمليات "تطهير ثقافي" عبر تدمير مواقع أثرية ورموز دينية مسيحية وإسلامية.
وتضيف سارة: "والدي كبير في السن وأمي مريضة بالسرطان، لذلك توجب علينا أن نعمل ونتدبر أمورنا لأنه من الصعب أن نعود. لم يعد لدينا شيء هناك كي نعود إلى العراق"، البلد الذي كان يعد 1,5 مليون مسيحي قبل سقوط نظام صدام حسين عام 2003، وهم أقل اليوم من 500 ألف.
وتختم "أنا سعيدة، فإضافة إلى كوني خريجة دبلوم محاسبة صرت أتقن مهنة خياطة الملابس والجلود".
فرصة ثانية للاجئات
بمناسبة مرور سبعة أعوام على تأسيس هذا المشروع، أٌقيم إحتفال في الورشة قدمت خلاله الفتيات بعض أعمالهن. ويقول الأب كورنيولي مدير مؤسسة "حبيبي فالتيبيرينا": هذه أفضل طريقة لمساعدة هؤلاء اللاجئات لأننا نحاول مساعدتهن بكرامة حتى يتمكن من تعلم شيء من المهارات الوظيفية ومساعدة عائلاتهن".
ويوضح أن "كثيرات منهن يُعتبرن الوحيدات اللواتي يعملن في أسرهن ويتمكن من خلال المال الذي يتلقينه من المشروع من إعالة أسرهن للبقاء على قيد الحياة". ويضيف: "هؤلاء الفتيات تم طردهن من قراهن في سهل نينوى من قبل تنظيم داعش، في البداية ذهبن الى كردستان ثم سمح لهن بالمجيء إلى هنا ودخول الأردن".
ويتابع "اعتقدن في البداية أنهن سيبقين في الأردن بضعة أشهر، لكنهن علقن هنا، بعض العائلات غادرت وبعضها لا يزال ينتظر"، مشيرا الى أن "هناك عائلات أخرى جديدة ما زالت تصل، لذا فهذه مشكلة مستمرة، لكن هذا المشروع سمح للاجئات بفعل شيء والبقاء على قيد الحياة".
ويعبر عن سعادته "لأن هذا المشروع يمنح كثيرات من الفتيات فرصة لتعلم شيء ما، وربما يمكنهن استخدام هذه المهارات عندما يغادرن" المملكة، اذ ينتظرن الرحيل الى بلد ثالث. ويشير إلى "قصص نجاح" لبعض الفتيات اللواتي غادرن الأردن ووجدن عملاً في أستراليا أو كندا أو الولايات المتحدة.
تباع المنتجات التي تخيطها الفتيات وهي فساتين وسترات وأحزمة وربطات في إيطاليا ولمغتربين مقيمين في عمان.
لكن الأب كورنيولي يأمل أن يصبح للورشة علامة تجارية، ويقول "حلم +رافدين+ الآن هو أن يكون لها علامة تجارية بحيث نتوجه إلى السوق ونبيع المزيد، لأن المشروع يجب أن يتصف باستدامة ذاتية وأن يدعم الفتيات".
قبل أن تأتي إلى الأردن عام 2017 كانت ديانا نبيل (29 عاماُ) وهي لاجئة مسيحية من بغداد تعمل محاسبة في شركة مقاولات، ومن خلال فرصة عمل منحنها إياها هذه الورشة قبل ثلاثة أعوام، اكتسبت بعض الخبرة في مجال الخياطة.
وتقول ديانا التي جاءت الى الأردن برفقة والديها وعمتها تمهيداً للجوء الى أستراليا حيث تعيش شقيقتها: "في البداية كنت أعرف أموراً قليلة عن الخياطة. هنا تعلمت أكثر وبدأت أخيط الأقمشة والجلود".
وتضيف "بعض أقاربنا يساعدوننا مالياً وأحيانا تساعدنا الأمم المتحدة قليلاً جداً، ومع عملي هنا نتدبر أمورنا".
ويقول وائل سليمان مدير منظمة "كاريتاس" في الأردن، التي تقدم مساعدات إنسانية وطبية للاجئين:"لا يزال ما بين 12 ألفا و13 ألف لاجىء مسيحي عراقي في الأردن، وهؤلاء محبطون لأن لا حلول لمشكلتهم".
ويضيف "يأملون باللجوء إلى بلد ثالث، لكن في ضوء الوضع وما يجري في العالم، تبدو الأبواب موصدة أمامهم".
ويخلص سليمان: "هم يخافون المستقبل ولا أحد يمكنه أن يلومهم على ذلك".