حين عرض على هيلين* أن تتولى منصباً جديداً وتصبح نائب رئيس تحرير مجلة صغيرة، اعتقدت بأنها ستقضي وقتها في اللحاق بالمواعيد النهائية الضيقة وإجراء تغييرات على التحقيقات الكبيرة في آخر لحظة، وهذه ممارسات عادية لأي كاتب متمرس، لكن بعد فترة وجيزة من تسلم الوظيفة عرفت أن مديرها يعمل بدوام جزئي من المنزل، "مما يعني أن مهمة الإدارة اليومية للفريق تركت لي" كما تقول. "قضيت اليوم بطوله في الإجابة عن الأسئلة بينما كنت شخصياً بصدد تعلم طرق العمل، وأصبح من شبه المستحيل أن أقوم بوظيفتي كما يجب". وبعد أن عينت المجلة مزيداً من الموظفين أصبحت مسؤولة عنهم أيضاً، وساءت الأمور. "لم أتلق أي تدريب من أي نوع على الإدارة، ووضعت في موقع يفوق قدرتي".
تحولت هيلين إلى "مديرة بالصدفة"، أي موظف يُوكل مهمة إدارة فريق بصورة تلقائية من دون أي إرشاد أو توجيهات، وفقاً للأبحاث الجديدة التي أصدرها "معهد تشارترد للإدارة" و"يوغوف".وبلغت نسبة المديرين الجدد الذين وضعوا في هذا الموقع في المملكة المتحدة 82 في المئة، جميعهم تركوا لكي يرتجلوا كيفية التصرف عند تعاملهم مع الموظفين الأقل رتبة منهم.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وتضيف هيلين، "إجمالاً كان موقف الموظفين الأعلى مني رتبة تصرفياً، وحين تضاعف حجم الفريق والعمل وسألت عن الخطة البديلة إذا لم أتمكن من التعامل مع العبء الإضافي، قالوا لي ’لن نحتاج إلى خطة بديلة‘ ولا شك أنني كنت مديرة ميؤوساً منها لكن لا أحد رغب في أن يسمع ذلك". وعندما اضطرت في نهاية المطاف إلى أن تطرد شخصاً من وظيفته، بحثت في "غوغل" عن طريقة لمفاتحته بالموضوع.
اسألوا أي رئيس ناجح أو مؤسس شركة ناشئة عن سر شركته، وسرعان ما سيبدأ بالتحدث بحماسة عن أن "الأفراد هم أغلى ما نملك" إنما على رغم ذلك "لا تعد إدارة تلك الأصول القيمة مهارة"، كما يقول فارلي توماس، المدرب على القيادة والرئيس التنفيذي لبرنامج Manageable لتطوير المهارات الإدارية. "هذا الأمر يصح بصورة خاصة في المملكة المتحدة حيث لا يبدو أن أحداً يتعامل بجدية مع مسألة الإدارة"، فحسن الإدارة موهبة غالباً ما يتوقع منا أن نكتسبها بشكل من الأشكال عبر الارتشاح، كما لو أن العمل لعدد معين من الساعات داخل غرفة اجتماعات، أو تشرب ما يكفي من الإضاءة السيئة داخل المكتب سيحولنا إلى مديرين منظمين ومحفزين ومتعاطفين مع الموظفين، ولا شك في أننا سنفعل كل ذلك فيما نوازن كل متطلبات وظيفتنا الفعلية، وهذا يبدو معقولاً.
لكن ما وجدته أبحاث شركة "غالوب" لاستشارات مكان العمل هو أن 10 في المئة من الأشخاص فقط يملكون موهبة فطرية في الإدارة، وليست هذه النسبة مطمئنة إجمالاً، وبالفعل تكثر الاحتمالات بأن تكون قد عملت تحت إمرة "مدير بالصدفة" إن لم يقحموك شخصياً في هذا الدور، ومنهم المدير الذي يخبر الجميع بأن دور المدير لا يناسبه فعلاً وأنه يشعره في الواقع بالإحراج، أو الشخص الذي حصل على ترقية لأنه محبوب في المكتب، أو الذي يطلب من مرؤوسيه أن يشرحوا له كيف ينقل وثيقة من برنامج "وورد" إلى برنامج "بي دي إف". وتذكر خبيرة التواصل كاثرين* كيف كان "مديرها بالصدفة" عادة "يضحي بزملائه عندما تظهر أية مشكلة أو ينسحب من مشاريع في اللحظة الأخيرة، لأنه لا يستطيع تحمل عبء مسؤوليتها".
هذا التصرف من قبل مديرها جعل كاثرين تشعر "بقدر أكبر من السخط والمرارة ومعارضة المهمات التي يوكلها إليها"، لأنها كانت تعلم بأن طريقتها في العمل مختلفة وأكثر فعالية برأيها.وليس رد فعلها استثناء أبداً، فقد وجدت دراسة "معهد تشارترد للإدارة" أن ثلث العاملين مع مدير غير فعال لديهم حوافز أقل لإتقان عملهم، فيما يبدأ نصفهم تقريباً بالتفكير في الاستقالة خلال الأشهر الـ 12 التالية، ويقول توماس "من التبعات الكبيرة لاتجاه ’مدير الصدفة‘ هو التدني الشديد في مستوى تفاعل الموظفين"، ويذكر استفتاء كئيب آخر من "غالوب" أن نحو 90 في المئة من الموظفين في هذا البلد غير مهتمين بعملهم.
وفي هذه الظاهرة إجحاف للعاملين في كل مراتب السلم الوظيفي، وتقول مدربة المهن ناتالي ترايس "إن لم نسلح الأفراد بمهارات الإدارة فنحن نحضرهم للفشل ونؤذي الأشخاص الذين يعملون تحت إمرتهم".
فلنأخذ مثل ميا*، مسؤولة العلاقات العامة التي وجدت نفسها في يوم من الأيام "فجأة في موقع إدارة شخص كان يتوقع الحصول على ترقية إبان الاستعراض السنوي لإنجازات العمل"، وكان ذلك الزميل يشعر أساساً "بالإحباط من خطة تطويره المهني، وقال إنه في حال عدم حصوله على الترقية فسيبدأ بالبحث عن وظيفة أخرى"، ففي السابق "وعده مسؤولون بالكثير ولم يفوا بوعودهم".
لكن ميا لم تتدرب على التعامل مع وضع شائك كهذا، وتقول "شعرت بأنني منافقة تلك الأشهر الأولى، وكنت أمر بحال من القلق الشديد مساء الأحد من كل يوم أسبوع لعلمي بأنني سأضطر للتعامل مع شخص محبط ومستاء كل أسبوع من دون أن أعرف ما الذي يصح أن أقوله وما لا يصح أن أقوله من الناحية المهنية"، وفي النهاية اختارت أن تكون "إنسانة وحسب" وأن "أمنحه المساحة التي يحتاجها للتنفيس عن غضبه"، لكن تجربتها مثال واضح على أن ترك المديرين الجدد في موقع الاعتماد على أنفسهم بكل شيء يضر الطرفين.
في الوقت الراهن يشهد عالم الأعمال تقلبات كثيرة بسبب الاضطراب الاقتصادي المستمر، وتشير ترايس إلى أن ذلك أدى "إلى تسريح موظفين أو تغييرات كبيرة في هيكلية (مكان العمل) أو الفريق الإداري"، ونتيجة لذلك يجد العاملون أنفسهم وقد وضعوا في مواقع نفوذ جديدة من دون "فترة تأقلم" لكي يعتادوا مهماتهم الجديدة، كما تقول، وربما وضعوا في موقع إدارة زملاء آخرين لا يزالون يحاولون التعامل مع تبعات عملية تسريح موظفين بما صاحبها من قلق وضغوط، وربما لم يريدوا أبداً أن يكونوا مسؤولين عن فريق، فهم "يرِثون الموقع ببساطة وهذا ما يتوقع منهم، ويمكن أن يولد هذا الوضع نقمة".
ماذا عن حقل ألغام دبلوماسي آخر محتمل؟ عندما تربط "المدير العرضي" الجديد صداقة وثيقة سابقة بالزملاء الذين أصبحوا مرؤوسيه، وتسأل ترايس "ماذا يحصل عندما يأتي الغد ويقول ’في الواقع أصبحت مديرك وأريد منك أن تحضر لي القهوة؟‘"
وفي صميم مسألة "مدير الصدفة" هذه حقيقة أن الموظف يحصل على ترقية في السلم الوظيفي الهرمي لسبب من اثنين، فإما أن "يبرع في مجال لا علاقة له البتة بالإدارة"، كما يقول توماس، أو أنه "روج لنفسه ومارس إلحاحاً أو ألاعيب سياسية لكي يحصل على منصب الإدارة"، لأنه يعتبره "سبيلاً إلى الحصول على أجر أعلى ومكانة أرفع ونجاح أكبر"، وفي هذه الحال يشير توماس إلى أن صفة "الصدفة" هنا قد تكون في غير محلها، لأن الشخص تعمد السير في هذا الطريق، ويقترح بدلاً من ذلك وصفاً أفضل وهو "مدير بلا مؤهلات"، لكن في الحالين "لا دلالة حقيقية على أي اهتمام بالإدارة".
أحياناً الأمر الذي يجعلك تبرع في عملك قد يعمل ضدك في حال وضعت فجأة في منصب أعلى، ويقول توم هيرست الذي أصبح رائد أعمال ومؤسس شركة Rockstar Spirits لمبيعات المشروبات الكحولية، "عملت كل حياتي في المبيعات وتقتضي الهيكلية العادية لتلك الشركات توظيف البائعين المتمرسين كمديرين للفريق، ومن طبيعة البائع البارع التنافس مع زملائه كي يحرز أفضل النتائج، لكن هذا لا يجعله بالضرورة مديراً جيداً".
كما وجد أن كثيراً من "مديري الصدفة" الذين عمل معهم "حاولوا أن يدفعوني إلى تغيير طريقة عملي تبعاً لما يفضلونه هم، بدل أن يشجعوني على اتباع أسلوبي الخاص الذي كنت أطبقه بنجاح"، وهذا فخ شائع، كما يقول فارلي توماس، "نسقط مشاعرنا وآراءنا ورغباتنا على الآخرين. وللأسف ومن دون أي تأهيل مناسب سيعامل كثير من المديرين جميع أعضاء الفريق كما يعاملون أنفسهم، ولن ينتابهم الفضول كي يكتشفوا ما الذي يحرك هؤلاء الأفراد؟".
ما الذي يمكن فعله إذاً في سبيل التصدي لآفة "مديري الصدفة"؟ يعتقد توماس أن الوقت حان "لوقف عادة الاستثمار المفرط في المديرين التنفيذيين" في موضوع التنمية الذاتية، ويقترح بدلاً من إنفاق مبالغ طائلة على تدريبات الإدارة لأشخاص في قمة الهرم الوظيفي تقسيم المبلغ نفسه بين الأشخاص ذوي الرتب الوظيفية الأدنى، وهذا برأيه سيكون أكثر منفعة بكثير.
في السابق حدث أن وضعت ليان كوبون، مستشارة العلاقات العامة التي تعمل عملاً حراً مع Search etc في منصب "مديرة بالصدفة"، وهي تعتقد أنه على المنظمات أن تحسن نفسها في مجال "استحداث فرص لمناصب مختلفة تناسب أشخاصاً قد لا يرغبون في أن يصبحوا مديرين" أبداً، "والأمر يتطلب فتح أحاديث في البداية مع الأفراد وسؤالهم إن كان هذا ما يريدونه، إذ أظن بأن بعضهم يشعرون أنهم يرغمون على المنصب لأنه السبيل الوحيد للحصول على لقب وظيفي أو زيادة في الراتب".
ويرى رائد الأعمال هيرست الموضوع من منظور مختلف، لكنه يقوم على منطق شبيه، ويقول "أرغب في أن تصبح إدارة الأشخاص مساراً مهنياً منفرداً بدلاً من أن تكون مهمة توضع بين أيدي أعلى الموظفين في الأقسام".
وفي أفضل الحالات قد يتحول "مدير الصدفة" أو فترة العمل مع أحدهم إلى مناسبة للتعلم، وتعتقد ميا أنها أصبحت مديرة أكثر تعاطفاً بسبب تجاربها، وبعد معاناتها مع مديرها الذي حصل على ترقيات أكثر مما يستحق، أرادت كاثرين "أن تثبت أنها استحقت المنصب" عندما أصبحت نفسها فجأة في ما بعد "مديرة بالصدفة". فماذا عن هيلين؟ "تعلمت أنني لست مديرة وتعهدت ألا أوضع في موقع مسؤولية عن أشخاص في المستقبل، فتركت وظيفتي وأصبحت أتعاطى أعمالاً حرة، وأنا أسعد بكثير وليس علي سوى أن أدير شخصاً واحداً وهو نفسي".
غُيرت الأسماء