ظلت السعودية قلب العالم الإسلامي والعربي منذ نشأتها، لكنها اليوم تدشن مشروعاً ضخماً يتمثل في إعادة موضعة (repositioning) لموقعها على الخريطة السياسية الإقليمية لاعباً أساسياً ورئيسياً في الشرق الأوسط، وبشكل لا يعتمد إلا على لغة الأرقام والواقع والقدرة على مقاربة أعقد الملفات السياسية والمناطق الوعرة بسلاسة كبيرة، ومن هنا يمكن أن نفهم هذه الحالة المرتبكة التي يقف عليها المستهدفون لنجاحات المملكة، وما يتبع ذلك من لغط وأوهام تعكس عدم الفهم للثابت والمتحول ومرتكزات السياسة السعودية، لكن والحق يقال تقابل ذلك تحولات كبيرة في تلقي تلك النجاحات حتى من الصحافة الغربية ومراكز الأبحاث التي لم تقف فقط عن الإشادة بالتحولات الضخمة لمشروع الرؤية وتأثيره على المجتمع السعودي خلال أقل من خمس سنوات، فاليوم أيضاً يتحدثون بوضوح عن سعودية جديدة على مستوى السياسة والاستقرار والسيادة وقدرتها الفائقة على تحريك المياه السياسية الراكدة، ومنها التحركات الأخيرة لملفات ظلت عالقة في منطقة الشرق الأوسط من سوريا إلى اليمن، وتغليب منطق الدولة العاقلة على ما عداه.
المشكلة اليوم يعيشها خصوم المملكة ومن لم يدرك حتى الآن «السعودية المتجددة»، وهم يعانون واحدة من أكثر أزمات التحليل السياسي الآن، انتشار الإشاعات والتحليل الاستباقي والرغبوي بشكل غريب تحول إلى ظاهرة، كما أنه ينظر إلى السياسة (فن الممكن) على أنها قطعيات عقائدية أو مسلّمات اجتماعية وفكرية.
الأسابيع الماضية كانت حافلة بالإشادة بالنجاحات السعودية، ويمكن رصد مئات التعليقات والمقالات والتحليلات والنقاشات حول الفعاليّة السعودية النشطة التي يقودها الأمير محمد بن سلمان ولي العهد، لا سيما على مستوى تحسين الأجواء الإقليمية في سبيل تكوين كتل توافقية في المنطقة، ليس في كل القضايا التي تخص المنطقة، وفي تغليب منطق الدولة ومصلحة البلاد في حالة التوتر والتنافسية بين الدول الكبرى مع الصعود الجديد للصين.
في خضم هذه التحولات الكبيرة، فإن من الطبيعي أن ترسل الرياض رسائل إيجابية تتوافق مع التغيرات الإقليمية، لكن تلك الإشارات حتماً لا تخضع لرغبات محللي السياسة أو المتعاطفين مع مكونات سياسية لا تمثل دولة مهما كان حضورها أو تأثيرها، فالتعامل مع المكونات السياسية ضمن نطاق دولة تتنازعها معضلة السيادة يختلف عن مقاربة حالة النزاع الأهلي، أو تضخم ملف المعارضة، وهي حالات حرجة تعيشها بلدان ما بعد الربيع العربي، تتطلب مهارة في تقدير الموقف السياسي وجمع الفرقاء، وحتى منح الفرصة لمن كانوا بالأمس في الضفاف الأخرى البعيدة، وهذا جزء من حيوية وفاعلية السياسة ومنطقها.
على مستوى البيت الخليجي، هناك نجاح سعودي لا يمكن أن تخطئه عين المراقب، حيث شكلت وحدة الموقف السياسي لدول الخليج تجاه القضايا الكبرى، على رأسها المخاوف الأمنية وحماية الاستقرار والحرب على الإرهاب والكيانات والميليشيات، ثابتاً لا يمكن التنازل عنه، ومع ذلك فوحدة المواقف السياسية لا تعني التطابق في وجهات النظر حول التعامل مع ملفات داخلية أو خارجية لا تؤثر على الرؤية الكلية المتصلة بالهوية المتجانسة للكيان الخليجي، وهذا السماح بوجهات نظر تختلف ولا تتضاد لم يعد حديث خاصاً، بل هو متاح للنقاش وتقريب وجهات النظر للوصول إلى موقف متجانس.
اليوم يجب علينا استشعار ملامح المرحلة التي دشنها العهد السعودي الجديد، والتي دشنت منطق الدولة، ومصلحتها فوق كل اعتبار، ومنحت هذا الكيان العظيم ثباتاً سياسياً وإعادة تعريف لما يستحقه من مكانة تجعله في مقدمة دول العالم العربي والإسلامي.
وهو ما يعني بعبارة أدق أن الاستقرار السعودي وتكريسه أسلوب عمل في المنطقة ليس مجانياً، بقدر ما أنه انعكاس لفهم حساسية المرحلة والتوقيت وإعادة موضعة المملكة بوصفها نموذجاً لدولة الاستقرار والرفاه رغم الكثير من التحديات التي على عاتقها، وأبرزها التحديات الأمنية وأزمات المنطقة المتراكمة والمعقدة.
والحال أنه يجب أن يكف عرافو السياسة، وما أكثرهم اليوم، عن إطلاق الشائعات الرغبوية بشأن السياسة الخارجية السعودية، وعليهم التوقف عن فرض أجندات جديدة باعتبار أن التحول السياسي في المملكة قد يصاحبه تحول على مستوى المواقف الخارجية، وهو ما يخالف وضعية الاستباقية السعودية على مستوى السياسة الخارجية التي تمثلت في تقديم حلول سياسية لأزمات المنطقة، والتي رأينا فيها تلك الاستراتيجية التي كانت تعمد إلى صياغة تصورات وحلول إنقاذ للعبث الجيوسياسي في المنطقة بهدف إعادة استقرارها.
خلاصة القول في خضم محاولة فهم المواقف السعودية والنجاحات الكبيرة في إدارتها للملفات الخارجية، علينا أن نستحضر الثابت والمتركز الأساسي، وهو الإيمان العميق بمقدرات ومستقبل المنطقة، وأنه مرهون فقط بتغليب منطق الدولة واستقرارها والاستثمار في مقدراتها عدا ذلك تفاصيل للحديث عنها بقية.