في السودان أينما كانت الأنهار تجد المراكب النيلية، فمن المؤكد أن عمرها الحالي هو عمر النهر الخالد، وإن بدايتها سحيقة في التاريخ ولديها مبرراتها الحياتية في الاقتصاد، كما أنها تعمق أواصر الصلات الاجتماعية وتبادل المنافع.
اكتسب الحرفيون مهنة صناعة القوارب الخشبية القديمة المتعددة الأشكال، فهي إما أن تحمل البضائع والمسافرين، أو تستخدم لصيد الأسماك، أو للعبور بين الجزر، ويعتمد أصحاب هذه المهنة على خشب السنط في الغالب لكفاءته في التعامل مع تيار النيل القوى.
براعة التصنيع
منطقة أبوروف في مدينة أم درمان تعد الأقدم والأكثر شهرة في صناعة المراكب الخشبية وأشرعتها بجميع الأشكال والأحجام، لكن ورشها أصبحت خاوية على عروشها تشكو ارتفاع كلف التصنيع، وفي المقابل يحارب "الأسطوات" من أجل بقاء المهنة، فهياكل القوارب القائمة تحت الإنشاء تبرهن على براعة وتفرد المراكبية.
وفي مناطق جبل أولياء وتوتي وودنوباوي وودراوة بولاية الجزيرة جنوب العاصمة السودانية يبرع العمال كذلك في تصنيع المراكب باحترافية عالية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
في ورشة "المحبة" بمدينة توتي بالخرطوم، يسرد الريس النمير سليمان تفاصيل مهنة تصنيع المراكب النيلية قائلاً "تحتل مراكب الخشب المرتبة الأولى منذ أزمان بعيدة وظلت الأولى في نقل البضائع والصيد، فضلاً عن استخدامها كوسيلة مواصلات داخل المدن، وفي السابق كان السودانيون يعتمدون عليها في نقل بضائعهم، بخاصة خلال أعوام حركة التجارة النشطة من دنقلا إلى أم درمان ومنها إلى جنوب البلاد".
وعن تكنيك الصناعة، أوضح "يحتاج التصنيع إلى جهد وصبر معاً بعد إحضار الخشب المحدد، وتبدأ عملية الشلخ داخل الورشة، أما الخطوة الثانية، فيتم خلالها رفع الكتلة فوق شجرة كبيرة لتقطع الجذوع بعرض ثلاثة سنتميترات بالتزامن مع البرد بالمنشار اليدوي، وهذه العملية يقوم بها شخصان أحدهما فوق الخشب والآخر من تحته بينما يتبادلان عملية الشد والجذب حتى يكتمل العدد المحدد من الخشب "المقوس والمستقيم"، ليبدأ ربط القطع بمسامير كبيرة الحجم وتنتهي العملية بتركيب الشراع للمراكب".
يضيف سليمان "تتكون المراكب من الشراع الذي يضم الصاري والقرية والقماش والأترابل، وهو مثل ’الشاسي‘ للعربة، أما البدل، فعبارة عن خشبة مائلة الشكل وتوضع بين القاعدة خشبتان منها تسميان ’التومات‘ و’الجواقيس‘ لربط المركب من الأطراف بشكل دائري، وتأتي الدفة في الخلف. أما القلفلة، فهي عبارة عن أقمشة تدخل في فراغات المركب لتمنع دخول الماء، وهناك ’الركبة‘ وتسمى ’العجمية‘ وهي قطعة لوح من الخشب طولها متر وعرضها 50 سنتمتراً وتلف بشكل ’مبروم‘ من القاعدة إلى أعلى، ثم ’الدفة والمقاديف‘ وهو مقعد في وسط المركب يوضع فيه الشراع".
خيارات جديدة
على امتداد ضفة النيل في العاصمة الخرطوم ازدهرت صناعة المراكب الحديد والفلوكات، وأصبحت الخيار المفضل لصيد الأسماك والسياحة النيلية نظراً إلى تفردها بالسرعة والأمان.
يعلق السموأل الطيب خليفة الذي ورث المهنة أباً عن جد على تطور الصناعة قائلاً "حدثت نهضة في العمل ودخلت القوارب التي تعمل بنظام الماكينات السوق وذاع صيتها بشكل كبير وبات الإقبال عليها عالياً في وقت أصبحت الحاجة إلى الخشبية تسير نحو التناقص لأن الأولى لا تحتاج إلى بذل جهد، فضلاً عن أن صناعتها لا تتعدى ثلاثة أيام، على عكس الثانية التي تتطلب أشهراً لتصبح أخيراً تراثاً لا يجاري حداثة اليوم".
ويذهب خليفة إلى أن المراكب الخشبية دائماً ما يتسرب الماء إلى داخلها، على عكس الحديد المصممة بشكل حديث ومواصفات تجعلها أكثر أماناً، لذا يرتفع الطلب عليها من أندية التجديف وهواة الصيد وشركات السياحة النيلية، خصوصاً اليخوت والمراكب الشراعية".
إثراء الثقافة
أستاذ التاريخ في إحدى الجامعات السودانية أحمد محمد مخاوي يقول إن "صناعة المراكب بدأت منذ أقدم العصور، وهناك إشارات تدل على ذلك أهمها ’سفينة سيدنا نوح‘ عليه السلام، لكن لا أحد يمكنه تحديد تاريخ معين لبداية صناعتها، وفي السودان نشط عمل المراكبية في المناطق القريبة من الشريط النيلي، حيث تستخدم القوارب للعبور وتنقل الإنسان والماشية والبضائع وأسهمت في إثراء ثقافة البلاد".
وأوضح مخاوي أن عدداً من الوثائق تشير إلى أشهر أنواع المراكب قبل 250 عاماً، وهي المملوكة لشخص يدعى يأمن في الخليج العربي، ويعد أشهر صانع سفن في ذلك الزمن، وجاء وصف مركبه في أحد نصوص الشعراء ’عدولية أو من سفين ابن يامن، يروح بها الملاح طوراً ويهتدي‘، أما في تاريخ السودان القريب، فإن قائد الثورة المهدية (1821- 1899) الإمام محمد أحمد المهدي كان يعمل مع والده في صناعة القوارب بمنطقة العجيجة في ريف البلاد، وبالنسبة إلى المدن المتحضرة كان يستخدم ’البنطون‘ وهو عبارة عن باخرة صغيرة تقليدية الصنع بديلاً للمركب، وفي العواصم الكبيرة ألغت الجسور البنطون نفسه، ومثال لذلك جزيرة توتي بالعاصمة الخرطوم التي كانت تستخدم فيها المراكب وبعد إنشاء الكبري أصبحت حركة النقل تتم عبره".
بحسب أستاذ التاريخ، فإن أجود أنواع الخشب في صناعة السفن هو السنط أو الموسك والزان لأنه خفيف الوزن ويطفو على سطح الماء بسهولة ويمكن خرمه، والملاحظ في هذه المهنة أنها محصورة على الرجال وقامت على تلك الصناعة حياة آلاف الأسر التي يتوارث أفرادها المهنة جيلاً بعد آخر ويقاتلون من أجل المحافظة عليها من الانقراض ويعيش عليها الصيادون الذين يبحثون عن رزقهم في النيل وأيضاً صانعوها، لكن هناك من ترك العمل ليتجه نحو حرفة أخرى بعد أن قل الإقبال عليها".
سياحة نيلية
تنتشر المراكب على ضفاف النهر وتؤجر للراغبين في السياحة النيلية، ويقبل عليها عدد مقدر من الزوار، بخاصة العائلات. وفي هذا الصدد أشار المراكبي التاج يعقوب رمضان إلى أن "العمل ينتعش في فصل الصيف وتنظم الرحلات عادة للترفيه وكسر الروتين جراء الضغوط الاقتصادية".
وأوضح أن مركبه يقل نحو 15 شخصاً في كل رحلة لمدة ساعة، وتبدأ من منطقة المقرن في الخرطوم إلى جزيرة توتي، والسعر للفرد يتراوح بين 3 و5 آلاف جنيه، بينما تبلغ قيمة الرحلة الكاملة بالنسبة إلى الأسر والطلاب 75 ألف جنيه (125 دولاراً).
وأضاف رمضان "تعد الطبقات الفقيرة الأكثر طلباً للرحلات لقلة كلفتها مقابل جولة في مياه النيل تتضمن مشاهدة معالم العاصمة وسط أجواء حافلة بالمرح والموسيقى".