«رحم الله امرأً عرف قدر نفسه» مقولة عربية خالدة، توصل علماء غربيون، على ما يبدو، إلى حقيقتها. فقد تبين أن القياديين يبالغون في تقدير أدائهم. القاعدة العامة التي قرأتها في دراسات عديدة رصينة أن القيادي لديه تضخم في تقييمه لأدائه مقارنة بتقييم العاملين معه لأسلوبه القيادي.
وقد أعددت شخصياً دراسة موسعة عن الأسلوب القيادي في القطاع المالي في إحدى الدول العربية لأجد أن هناك مبالغة ملحوظة في تقييم القائد لأسلوبه في العمل، مقارنة برأي أتباعه أو العاملين معه، وذلك عندما استطلعت آراؤهم في استبانات أحيطت بسرية تامة. مشكلتنا أننا لا نصارح القادة برأينا بهم. وربما هذا ما يدفع بعضهم إلى «تصديق نفسه» حتى تكشفه الدراسات العلمية.
وعندما تعمق الباحث سوسيك وزملاؤه في بيانات دراستهم الشهيرة حول سلوكهم القيادي التحويلي (المؤثر) وجدوا أن هناك ثلاث نتائج رئيسية. فمنهم من يُفْرِط في «سلبية» تقييم نفسه Under Estimator (أكثر من رأي الآخرين به)، ومنهم من يبالغ في إيجابية تقييم نفسه Over Estimator (أي بشكل مبالغ فيه مقارنة برأي أتباعه)، ومن القياديين من يتطابق رأيه عن نفسه مع رأي أتباعه عنه Self - Aware وهم قلة (وهو ما يعكس موضوعية إلمامه بأسلوبه القيادي).
غير أن المفارقة جاءت عندما تأمل الباحثون القادة الذين تضخمت آراؤهم عن أنفسهم أكثر من رأي العاملين معهم، فوجدوا أنهم يفتقرون للذكاء الاجتماعي EI، ولديهم ميل نحو العدائية والدخول في معارك مع الآخرين، ولوحظ أنهم أقل ثقة من قبل الآخرين، والأقل التزاماً تجاه متطلبات المنظمة التي يعملون بها!
والأسوأ أنهم كانوا يتجاهلون آراء الآخرين بهم أو ما يسمى بالتغذية الراجعة feedback.
أما القياديون الذين «جلدوا أنفسهم جلداً» بتقييم أدنى من آراء أتباعهم عنهم، فكانوا يفتقرون للثقة بالنفس، ويميلون للقسوة على أنفسهم على اعتبار أن القائد يجب ألا يتوقف عن مسيرة تطوير نفسه. وعندما تدبر العلماء البيانات أكثر لاحظوا أموراً أخرى، وهي أن هذه الفئة يعوزها وجود هدف واضح في الحياة يسعون من أجله. إلا أن هناك جانباً مشرقاً، وهو أن القائد القاسي في تقييم أسلوبه في العمل، يجد من حوله متعة في التعامل معه، ويثقون به إلى حد ما، ولديه التزام ملحوظ تجاه منظمته.
والأجمل أن هذا المسؤول يتحسن أداؤه عندما يتناهى إلى أسماعه آراء الآخرين به. في حين أن النوع الثالث، وهو القيادي الذي يتطابق رأيه بأسلوبه القيادي مع رأي العاملين معه عن أدائه، فإن الدراسة تؤكد أنه يتحلى بذكاء اجتماعي، ولديه وعي جيد بنفسه، ويتمتع بشغف في العمل من أجل الصالح العام ومنظمته، وربما ذلك أحد الأسباب التي تولد ثقة ملحوظة بهم.
والأهم أن النصائح التي تقدم لهم لا تذهب هدراً، فهم يتطورون بحسب ما يقدم لهم من نصائح وآراء متعلقة بنمطهم القيادي.
جاءت هذه النتائج بعد أن أجرى الباحثون مقابلات مسجلة بالفيديو مع مسؤولين تنفيذيين من 65 منظمة بما في ذلك شركة جنرال إلكتريك وشركة كوالكوم وباركليز جلوبال إنفستورز - لتحديد السلوكيات والسمات المشتركة التي تؤدي إلى النجاح المؤسسي للقادة.
خلاصة القول، إن المبالغة في تقديم الذات أو النمط القيادي، قد تعود إلى مشاكل محددة يعاني منها المسؤول، كأن لا يقتنع بآراء الناس ونصائحهم، أو أن لديه أسلوباً عدائياً تجاه الآخرين. وأياً كان مصدر ذلك السلوك، نفسياً أو جينياً، فهو بلا شك عائق يحول دون إدراك المرء لحقيقة نفسه. وهذه هي معضلة التعامل مع البشر، ناهيك عن أن يكونوا في مناصب قيادية رفيعة.