يستخدم مدفع الإفطار، الذي يعدّ تقليداً إسلامياً في تونس، في رمضان لإيذان الصائمين بحلول موعد الإفطار، إلا أنه يواجه خطر الاندثار بعد أن دفعت الاضطرابات الأمنية، التي عرفتها البلاد بعد انتفاضة 14 يناير (كانون الثاني) 2011، معظم المدافع إلى الصمت، فضلاً عن التطورات التقنية وتشييد الكثير من المساجد في السنوات الأخيرة وهي عوامل أرخت بظلالها الكثيفة على مصير هذا الموروث التاريخي.
وفي ولاية الكاف المتاخمة للحدود الجزائرية (شمال غرب) لا يزال المدفع يحاول الصمود لرمزيته، وعاد المدفع إلى هذه المدينة المعروفة بمعالم أثرية على غرار "مائدة يوغرطة" التي تسعى السلطات إلى إدراجها في لائحة التراث العالمي بعد سنوات من الانقطاع.
طلقات واحتفالات
وانتشر المدفع في العديد من المدن التونسية طيلة العقود الماضية، لكن السلطات اضطرت إلى إسكات العديد منها، وربما أهمها مدفع ولاية القيروان (وسط) التي تُعد أقدم مدينة إسلامية في تونس بعد أن اختارها عقبة بن نافع لنشر الإسلام في منطقة المغرب العربي.
لكن في المقابل، لا يزال المدفع يكافح في مدن أخرى مثل الكاف التي عاد فيها المدفع إلى النشاط قبل سنتين من الآن بعد إسكاته أعواماً، وعلى رغم حالة الفرح والبهجة التي يدخلها في نفوس كثيرين إلا أن المدفع ينطوي على العديد من المخاطر إذ تسبب في كثير من الحوادث في إصابة أو مقتل القائمين على تشغيله.
وقال رئيس "جمعية صيانة مدينة الكاف" عمار ثليجان إن "الكاف معروفة بعاداتها وتقاليدها وهي مدينة ذات تراث ضارب في القدم، لذلك المدفع هو تقليد موجود في الكاف لكنه تراجع في كثير من المدن خصوصاً أنه مرتبط بالمدينة العتيقة"، وتابع ثليجان أن "المدفع مركز في مناطق معينة الآن، في الكاف يتم تركيزه في منطقة القصبة التي تعد أعلى نقطة في الولاية وهو مكان محمي ويمكن مشاهدته من غالبية السكان على امتداد عشرات الكيلومترات".
وعن تاريخ المدفع قال ثليجان "قبل أن يظهر التلفزيون والتكنولوجيات الحديثة، كان الناس يصومون ويفطرون استناداً لطلقات المدفع، ومن خصوصيات مدفع الكاف أنه مصنوع من النحاس ولا يوجد في تونس سوى نسختين منه تم حجزهما عام 1813 من قبل الجيش التونسي آنذاك، والنسختان واحدة احتفظ بها في الكاف وفيها نقوش وتستعمل كإيذان للإفطار، والثانية تم تصديرها إلى فرنسا".
وأضاف "الإعلام عن شهر رمضان يتم كذلك بعد تأكد رؤية الهلال بإطلاق ثلاث طلقات للإعلان عن بداية شهر الصوم، وليلة العيد أيضاً، فبعد تأكد الرؤية، يتم إطلاق طلقات عدة، وهذه الطلقات يتلقاها كثيرون من أطفال وسواهم باحتفالات بحلول الشهر المعظم أو بالإفطار وبحلول العيد".
وشهدت تونس بعد انتفاضة 14 يناير اضطرابات أمنية سواء بسبب الاعتصامات والتظاهرات أو الاعتداءات الإرهابية التي أرغمت السلطات إلى إسكات المدافع.
ويقول ثليجان "توقف المدفع بعد أحداث 2011 كان أساساً لدواعٍ أمنية واستمر ذلك سنوات قبل أن يعود مدفع الكاف قبل سنتين من الآن وفي الظرف الراهن يعمل بطريقة مختلفة".
وتسبب المدفع الرمضاني في العديد من الحوادث التي أثارت مخاوف في تونس، ففي ولاية صفاقس (جنوب) انفجر في عام 2010 حيث تسبب في وفاة مهندس البلدية وجرح جنديين.
نحو الاندثار
ولا توجد مراجع تاريخية موثوقة لمعرفة حيثيات نشأة المدفع والدوافع الكامنة خلف نجاحه في اجتذاب المسلمين في شهر رمضان، لكن مصادر ترجح أن يكون صاحب الفكرة مصري قبل أن يتم استنساخه في العديد من الدول العربية الأخرى.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وقال أستاذ التاريخ بالجامعة التونسية محمد ذويب "بحسب بعض المصادر، يعدّ والي مصر محمد علي باشا الكبير أول من اعتمد المدافع لإعلان الإفطار، وكان قد اشترى عدداً كبيراً من المدافع الحربية الحديثة في إطار خطته لبناء جيش مصري قوي، وذات يوم، تزامن إطلاق المدفع مع لحظة الإفطار ما جعل الأمر يصل إلى أكثر عدد ممكن من الناس وهو ما وجد قبولاً من الناس وأصبح أكثر انتشاراً".
أضاف ذويب "منذ 2011 تراجع استعمال المدافع في تونس وبقي فقط في بعض الولايات على غرار بنزرت وصفاقس والكاف وقد يكون هذا التراجع لدواعٍ أمنية"، واستدرك قائلاً "لكن مع تطور التكنولوجيا يبدو أن هذه العادة ذاهبة للاندثار".
عادات وتقاليد
ومن غير الواضح ما إذا سينجح مدفع الإفطار في الصمود في تونس، خصوصاً مع تشييد العشرات، إن لم يكن المئات، من المساجد بعد انتفاضة 14 يناير ما جعل المناطق النائية التي كانت بحاجة لمعرفة موعد الإفطار من خلال المدفع في غنى عنه.
وختم عمار ثليجان أن "هناك تمسكاً بالتقاليد والعادات في مدن، ومدن أخرى اندثر فيها المدفع، أيضاً انتشار المساجد التي يمثل الآذان فيها إعلاناً عن الإفطار في صلاة المغرب يعادل المدفع وبالتالي تقلص دور المدفع".