تفتح مدينة مداوروش أو مادور، الواقعة على بعد 45 كيلومتراً جنوب سوق أهراس، شرق الجزائر والمتاخمة للحدود التونسية، نافذة حضارية لزوارها للعودة لحضارات عريقة واكتشاف بعض من عوالمها وأسرارها، إذ يبقى المكان شاهداً على تأسيس أول جامعة في القارة الأفريقية، وكذلك ميلاد أول نص روائي في تاريخ البشرية وتشييد أصغر مسرح روماني في العالم وإنجاب مبتكر لنظام معلوماتي عربي.
وتبقى بنايات مادور شاهدة على الحضارات المتعاقبة، بدءاً بالحضارة النوميدية والبونيقية، إلى الحضارة الرومانية، فالوندالية والبيزنطية، وصولاً إلى الحضارة الإسلامية، لكن في فترة الاستعمار الفرنسي تعرض إرث المدينة لنهب كبير أخفى حلقات مهمة من تاريخ الحضارات القديمة، كما يذكر مؤرخون.
مدينة المشاهير
في تسميتها مرت المدينة بمراحل عدة، إذ كانت تلقب بمداوروش وهو اسم نوميدي، وبعد مجيء الرومان إلى الجزائر أطلقوا عليها "مادوروس و"مادوريس" وهو ما يعني الرطوبة والنداوة باللغة اللاتينية، أما في الفترة الإسلامية، فعرفت تحت اسم تماديت.
يعود تأسيسها لعام 75 قبل الميلاد في عهد الإمبراطور الروماني فسبازيان وعرفت هذه المنطقة بازدهارها الثقافي والعلمي، بحيث كانت مقراً لأول جامعة في أفريقيا تحت حكم سيفاكس (220 -230 ق.م)، ولم تصنف جامعة "مادور" ضمن أقدم جامعات العالم لأنها مصنفة كآثار، إذ لم يتبق منها بناء صالح لتقديم الدروس حالياً.
وارتبطت "مادور" بمشاهير الأدب والنحو والعلوم والفلسفة الذين جاءت سيرهم في كتب التاريخ كأبوليوس، الأديب والفيلسوف النوميدي الذي كان يطلق على نفسه "أبوليوس المادوري الأفلاطوني" وهو صاحب أول رواية في التاريخ البشري الإنساني والموسومة "الحمار الذهبي" أو "التحولات" وكذلك اسم النحوي ماكسيم وعالم الفلك والكاتب مارتيانوس كابيلا.
كما شهدت ميلاد القديس أوغسطين أحد الآباء المؤسسين الأربعة للكنيسة عام 354 ميلادياً، وبالتحديد في طاغست والمسماة سوق أهراس حالياً التي كانت تقع في إحدى مقاطعات مملكة روما بشمال أفريقيا، وعندما بلغ الـ11 من عمره أرسل أوغسطين من طرف أسرته إلى مداوروش ليتوجه منها إلى قرطاج (تونس) وهو في سن الـ17 لإتمام دراسة علم البيان.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
المدينة ألهمت كثيرين، ففي حين اختار الكاتب الراحل الطاهر وطار المعروف بمقولة "الحداثة كانت قدري ولم يملها علي أحد"، العيش فيها لمدة معتبرة، أنجبت مداوروش عام 1956 مصمم أول نظام معلوماتي عربي لاتيني هو بشير حليمي المقيم في كندا حالياً، إذ يعود له الفضل في تطوير خوارزميات التعريب بتقنية الكتابة في الأنظمة الحاسوبية، واستفادت من براءات اختراعه شركات كبيرة عند نشوئها مثل "مايكروسوفت".
وسمحت برمجياته للشركات الكبرى في الثمانينيات والتسعينيات بالتوغل في الأسواق العربية بفضل برامجه في تقنيات الكتابة، وعملت شركاته مع شركات الاتصال الكبيرة مثل "فرانس تيليكوم" و"بيل كندا" و"وول مارت" و"غالوب".
كما طلبت منه "مايكروسوفت" التعاون معها في إدخال وتحسين رقمنة اللغة العربية في الحواسيب وغير اللغة العربية بفضل براءات اختراعه في المجال، في حين أسس شركات عدة في الاتصالات وتطوير برمجيات الأجيال الجديدة للهواتف الذكية.
رخاء العيش
يقول علماء الآثار أن مادور عرفت منذ الأزل برخاء العيش ورغده وتعكس هذه الحياة حقول الحبوب والزيتون، إذ تعتبر مادور المدينة الأثرية الوحيدة التي اكتشفت فيها معاصر الزيتون ويبلغ عددها 22 معصرة أثرية قديمة، مما يؤكد اشتهار المنطقة بأشجار الزيتون وصناعة زيته، ولم يبق لها أثر، وثمة من يقول إنها حرقت إبان الحربين العالميتين الأولى والثانية، وهناك من يرجح أن تكون سياسة الأرض المحروقة إبان الاستعمار الفرنسي وراء اختفائها.
إلى ذلك، تشير كنوزها المدفونة تحت الأرض المتمثلة في حمامين ومعابد وثلاث كنائس وقبور عن عمق المدينة والحياة العقائدية القديمة فيها، بينما الآثار لا تزال شاهدة على إحدى أضخم الحضارات تطويراً للمجاري المائية وهي الحضارة الرومانية التي قدست الماء، تماماً مثل فن العمارة الذي تعكسه بقايا المدينة الأثرية المتربعة على 109 هكتارات، 25 هكتاراً منها تضم آثاراً ظاهرة وسبعة هكتارات أخرى كانت محل حفريات في القرن الماضي.
وتحتفظ بين ثنايا صخورها بذاكرة أسماء أشهر المهندسين وعباقرة فن العمارة الرومان، منهم فيتريف، صاحب المجلدات الـ10 النادرة في فن الهندسة المعمارية، في حين لا تزال طريقة بناء وتصميم المدينة تثير حيرة علماء الآثار والمهندسين لعدم وجود أعمدة أو دعامات بها، كما في أهرامات مصر.
كما يوجد في المدينة مسرح روماني يعد الأصغر بكامل الإمبراطورية الرومانية من الشرق إلى الغرب والذي يسع 1200 متفرج، وبه ثلاثة مداخل وأسسه غابينيس الذي خصص له مبلغ 356 ألف "إسلستس" (عملة رومانية)، عرفاناً لأهل المدينة الذين صوتوا له لتقلد منصب رئيس بلدية.
وتعززت مادور بدخول البيزنطيين الذين رسخوا أهميتها في المنطقة وغيروا في ملامحها بإضافة قلعة وسط الساحة العامة على أنقاض المدينة النوميدية، لا تزال قائمة بعد مرور نحو 15 قرناً على تشييدها من قبل الحاكم سولومون عام 536 ميلادياً وتزيد مساحتها على 800 متر مربع وتحتوي على برجي مراقبة وبنيت بحجارة ضخمة جلبت من مختلف مواقع المدينة الرومانية.