مثقفو المنتصف الأول من القرن الماضي من المصريين الذين أثيرت حولهم تهمة الإلحاد، ذُكروا في كتب ومقالات تتبنى وجهات نظر متناقضة حولهم، وأستثني من ذلك محمد سيد كيلاني الذي كانت له سابقة في الإلحاد، لكنها كانت منسية. العجيب أنه في عام 1959 وفي عام 1961 وفي عام 1986، استطاب أن يشهَّر بالذين أثيرت حولهم تلك التهمة، سواء أكانت قوية أم ضعيفة، باسم الأمانة في تسجيل التاريخ، لا بقصد الإساءة الشخصية إليهم!
وسأوضح في مقال قادم أن اهتمامه هذا كان لقضية شخصية خاصة به، ولم يكن – بالنسبة له - قضية فكرية عامة.
أشار أحمد حسين الطماوي إلى سابقته في الإلحاد بعد وفاته في 29 ديسمبر (كانون الأول) عام 1998، في مقاله «رحيل سيد كيلاني، صاحب ربوع الأزبكية»، المنشور في مجلة «الهلال» بتاريخ 1 مارس (أذار) 1999.
وأشار إلى هذه السابقة في سياق مختلف إبراهيم عوض في كتابه «كاتب من جيل العمالقة، د. محمد لطفي جمعة... قراءة في فكره الإسلامي»، الصادر عام 1999.
وقبل ما يزيد على العام من وفاة كيلاني صدر كتاب «العلمانية في مصر بين الصراع الديني والسياسي 1900 – 1950»، لصابر أحمد نايل في 1997.
في الفصل الثاني من هذا الكتاب تحدث عن كتاب كيلاني (الشريف الرضي... عصره، تاريخ حياته، شعره) وعن قضيته أمام محكمة الجنايات.
مقدمة الكتاب أرّخها كيلاني بـ25 مارس سنة 1937، ولم أتمكن من معرفة الشهر الذي صدر فيه كتابه.
قبل صفحات المقدمة خصص صفحة لوضع صورته الفوتوغرافية بتلك الأيام، مرتدياً جاكيتاً، يطل من جيبه العلوي منديل مزركش، ومعتمراً طربوشاً أماله قليلاً إلى اليسار. وكتب تحت صورته الفوتوغرافية التي ظهر فيها بحلّة أنيقة شعاراً، قال فيه؛ ما كان لصاحب رأي أن يكون جباناً. وذيّل هذا الشعار باسمه، كاتباً اسمه الأخير بأل التعريف؛ الكيلاني، وليس كيلاني!
حديث نايل عن الكتاب كان عبر إيراده 6 نصوص منه، تتضمن تجديفاً دينياً، وإيراده 3 نصوص أخرى منه، هي...
النص الأول، هو كلامه في آخر المقدمة الذي تباهى فيه بشجاعته بقول ما قاله في كتابه من تجديفات. والنص الثاني، قوله: «إن شاء القارئ أن يقف على ما وصلت إليه من التدهور أن يطلع على الجزء الثالث من كتاب (يتيمة الدهر للثعالبي)». وهذا الكلام كلام عادي، ليس فيه أي مؤاخذة دينية.
والنص الثالث، هو قوله: «سيغضب الذين يسيرون على قاعدة (اذكروا محاسن موتاكم) علينا غضباً شديداً، وربما وجهوا إلينا كثيراً من الشتائم والسباب، ورمونا بالكفر واتهمونا بالإلحاد، ونحن لا يهمنا هذا أو ذاك، إنما يهمنا شيء واحد، هو إظهار الحقيقة التي هي فوق كل اعتبار».
لحماسة نايل للعلمانية ولكتبها في مصر في المنتصف الأول من القرن الماضي، ولحماسته لما جازف فيه كيلاني من قول آراء وتفاسير وأحكام في كتابه، قال قبل أن يورد النص الثالث: «وتنبأ الكيلاني ما سيواجه (كذا) من عواصف على أثر (كذا) كتابه هذا، فيقول في استعراضه عن (كذا) الحياة السياسية والاجتماعية لعصر الشريف الرضي...».
إنه في قوله هذا جافى الفهم السليم، وقدم النص الثالث في غير سياقه الدقيق، وفي غير معناه الصحيح.
يبتدئ الخطأ باستعماله فعل «يتنبأ»، فكيلاني في النص الثالث، لم يكن «يتنبأ»، بل هو متيقن أن كتابه سيقابل بعاصفة من الغضب الديني بسبب ما قاله فيه، وهو يتكلم عن الدين من حيث هو عقيدة في نفوس معتنقيه في القرن الرابع الهجري.
ومما قاله في هذا الصدد: «الصيام عادة هندية قديمة اقتبسها الإسلام بعد أن أدخل عليها شيئاً من التهذيب، وهو ضار بالصحة، لأنه تغيير فجائي لنظام المعيشة اليومية».
«ويلاحظ الباحث عن الحالة الدينية في ذلك العصر، أنه قلما يظهر رجل ويدعي النبوة حتى يلتف حوله المؤمنون به، والمؤيدون له حتى ابن الشلمغاني الذي ادعى الربوبية وطعن في النبي لم يعدم من يلتف حوله وينتصر له».
«فالدين الذي أتى به النبي قد أصبح في القرن الرابع الهجري، أثراً من الآثار لا أكثر ولا أقل. ولم يبقَ منه إلا لفظه وبعض أحكامه التي تبيح للناس الزواج والطلاق وترشدهم إلى نظام الوراثة».
«لسنا نشك في أن الدين الذي أتى به محمد قد قضى نحبه في ذلك العصر، ولسنا نرتاب في أن المسلمين قد وصلوا إلى حالة دونها حالة العرب أيام الجاهلية».
هذه بعض الأمثلة لما قاله، في سياق حديثه عن الحالة الدينية، وليس – كما ادعى نايل – في سياق استعراضه الحياة السياسية والاجتماعية لعصر الشريف الرضي.
ثم إن كيلاني قبل أن يصدر كتابه يعرف ما حل بمنصور فهمي عام 1914، بسبب رسالته للدكتوراه التي كتبها في جامعة السوربون «حالة المرأة في التقاليد الإسلامية وتطوراتها»، وما حل بعلي عبد الرازق عام 1925، بسبب كتابه «الإسلام وأصول الحكم»، وما حل بطه حسين عام 1926، بسبب كتابه «في الشعر الجاهلي»، ويعرف أنهم اتهموا بالكفر والإلحاد، وهو يعلم جيداً أن ما قاله في الفصل الأول من كتابه بأقسامه الأربعة؛ الحالة السياسية، الحالة الاجتماعية، الحالة الدينية، الحالة الفكرية، بمعيار الكفر والإيمان، قد جاوز ما قاله الكتاب الأول وما قاله الكتاب الثالث مُجتمعيْن في الخروج على المدارك الإسلامية العليا إلى حد بعيد.
كما أن النص الثالث الذي أورده نايل يدنو من معنى النص الأول الذي أورده بتمهيد قال فيه: «بدأ محمد سيد الكيلاني كتابه (الشريف الرضي)، بمقدمة أعرب فيها عن مخاطر بحثه».
وكان النص يقول: «وسيرى القارئ لهذه الفصول بحوثاً قد يغضب منها وقد لا يغضب، وعلى كلٍ فإني لم أجبل على مراعاة العواطف إنما جبلت على قول الحقيقة، أسعى في طلبها حتى إذا ما ظفرت بها قدمتها إلى من يعشقونها دون أن أبتغي من وراء ذلك جزاءً أو شكوراً. والحقيقة هنا مرّة لا ترحم أحداً من هؤلاء الذين يخضعون عقولهم لمعتقدات أراها أثراً من آثار الماضي المظلم لا أكثر ولا أقل». وما قاله في هذا التمهيد يناسب أن يقوله في التمهيد لإيراد النص الثالث أو بما معناه من دون أن يخطئ في حق الموضوعية. والأنسب أن يجمع هذين النصين في تمهيد واحد. وللحديث بقية.