محادثات طهران وواشنطن وتجنب وقوع الأسوأ

منذ 1 سنة 205

يكثر الحديث في هذه الفترة عن احتمال التوصل إلى اتفاق تفاهم أميركي - إيراني مؤقت بشأن الملف النووي يشمل رفعاً جزئياً للعقوبات ووقف إيران عمليات تخصيب اليورانيوم وتخزينه الذي وصل إلى حد تلبية احتياجات الأسلحة، وذلك بعد أكثر من عامين من الفشل في إحياء «خطة العمل المشتركة الشاملة» التي خرجت منها إدارة دونالد ترمب. قد تكون أمام هذا التطور المرجو عقبات جمة قبل أن يصل إلى خواتيمه، لكن السؤال الأبرز الذي يفرض نفسه هو لماذا تكرر واشنطن الخطأ نفسه الذي ارتكبته عام 2015 ولا تشرك في المحادثات الجارية دول مجلس التعاون الخليجي، لعلها من جهة تتيسر وتتجنب ما تعرضت له إبان الاتفاق الأول من نقد ولوم لتجاهلها هواجس دول المنطقة؟ ألا يعيد ذلك الثقة المفقودة معها وهو فعلاً ما تسعى إليه وعبرت عنه زيارتا جاي سوليفن وأنتوني بلينكن إلى السعودية؟ من جهة ثانية، قد يشكل إشراك دول الخليج ضغطاً إضافياً على طهران في وقت تشهد فيه العلاقات الإيرانية - الخليجية بعامة والسعودية بخاصة، مروحة واسعة من التفاهمات.

في الواقع، يبدو أن واشنطن لا تستشعر التحولات الإقليمية بشيء من الواقعية، ولا تعي معنى أن يكون السعي للتطبيع بين المملكة وإسرائيل وتشكيل حلف عربي - إسرائيلي ضد إيران اللذان رافقا الاتفاق الأول قد استبدل بهما انفتاح عربي على طهران مع ما يعنيه ذلك من تخلٍ عربي عن مشروع مواجهتها. وفي هذا السياق، ثمة وجهتا نظر؛ الأولى تعتبر أن التفاهمات المصرية - الإيرانية والإيرانية - الخليجية ومن ضمنها الاتفاق السعودي - الإيراني، بددت مخاوف هذه الدول من إيران نووية على قاعدة أن العلاقات الطبيعية والتعاون الأمني يسقطان المخاوف. وجهة النظر الثانية تقول إنه يصعب الاقتناع بأن مخاوف الدول الخليجية قد زالت تماماً، والخشية لا تزال موجودة. فالاتفاق السعودي - الإيراني لم يحل كل المشاكل العالقة بين البلدين دفعة واحدة، إنما غيّر من طبيعة مقاربتها وفتح الباب أمام التعاطي معها واحدة واحدة وبتدرج، من اليمن إلى لبنان مروراً بالعراق وسوريا. وبحسب هذا الرأي تحتاج الخلافات إلى سنوات لمعالجتها عن طريق الحوار وخفض حرارة النزاع ووقف الحملات بأشكالها كافة، وتجفيف المسببات والتعويل على الوقت والعوامل الداخلية والمتغيرات الإقليمية والدولية.

على مقلب آخر، ثمة من يبرئ واشنطن من عدم إشراك دول مجلس التعاون الخليجي في المحادثات النووية الجديدة، ويقول إن إيران هي من لا تريد ذلك، مستندين إلى رفض الخارجية الإيرانية دعوات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إشراك الرياض فيها. فإشراك دول الخليج قد يعني الاعتراف بالتهديد الإقليمي الإيراني ورفع مطالب غير نووية، مثل تقليص برنامجها الصاروخي والحد من تدخلاتها الإقليمية، ويعني في الوقت عينه، تجاهل مخاوف إيران الإقليمية لجهة المخاطر التي تشكلها القواعد العسكرية الأميركية في المنطقة واتفاقيات إبراهيم مع كل من الإمارات العربية المتحدة والبحرين. لذلك، أرادت إيران بحل التوترات مع الدول العربية، لا سيما الخليجية في إطار الآليات الإقليمية، من دون أن تمنحهم أي دور في تفاهمات نووية جديدة خاصة بها. وفي الإطار نفسه، لن تغامر إيران اليوم بتفاهمها الجديد مع السعودية وانفتاح الدول العربية عليها من خلال إدخالهم في سراديب المحادثات النووية بما قد يحيي حدة التباينات بينهم من جديد.

وثمة من يقول إن الدول الخليجية هي التي لا ترغب اليوم بالمشاركة في المحادثات النووية، باعتبار أن تقييد برنامج إيران النووي جيد، لكنه ليس المشكلة التي تقلقها، إذ صحيح أن طهران تسعى لتكون دولة نووية، لكنها ليست انتحارية ولن تستخدم هذا السلاح. ما يقلق دول الخليج هو الآلاف من الأسلحة الذكية الصغيرة التي طورتها إيران وباتت التهديد الحقيقي والمباشر لجيرانها. فما وقع من اعتداءات على المملكة ما زال عالقاً في الأذهان، كما علق عدم رد إدارة دونالد ترمب على هذه الهجمات، بل طالبت السعودية بدفع تكلفة أي قوات أميركية أو أسلحة ترسلها. أدركت السعودية حينها الفشل المزدوج للسياسة الأميركية تجاه إيران وحماية أمن المنطقة جراء عدم التوصل إلى اتفاق نووي يمنعها من أن تصبح دولة نووية، بل تضاعف برنامجها النووي 12 مرة. وفشلت أيضاً في مواجهة مشروع إيران التوسعي في أكثر من دولة عربية وتدخلها في نزاعات إقليمية ما زال أغلبها محتدماً.

هذا الفشل الأميركي عزز قناعة دول المنطقة بأن الأمن الإقليمي لن يتحقق من خلال واشنطن وعبر الحماية الأميركية، لا سيما مع المتغيرات التي طرأت على العلاقات الدولية والتوتر بين الغرب وروسيا والصين، ما يحتم اللجوء إلى مقاربات إقليمية في الأمن والعلاقات الخارجية والاقتصادية المتوازنة. هذا التوجه أدى إلى الاتفاق السعودي - الإيراني الأخير. ومع ذلك، الواقعية تفرض الحذر والروية لأن الهوة لا تزال كبيرة مع إيران بسبب الخلاف الآيديولوجي وطبيعة نظام الحكم فيها، ما يحتم متابعة مسارات التطبيع وتوسيع التفاهمات.

وبانتظار أن تسمح قنوات الحوار التي وفرها هذا الاتفاق لنتائج مرضية على الأرض، لا يبقى لدول المنطقة سوى انتظار نجاح أو فشل واشنطن في سعيها إلى «اتفاق نووي محدود» تعرف أنه ليس جيداً، إلا أن البدائل قد تكون أسوأ بكثير، في وقت تواجه فيه حرباً داخلية وخارجية شعواء مع موافقة لجنة العلاقات الخارجية في مجلس النواب الأميركي على مشروع قانون يجعل العقوبات على إيران دائمة بهدف منعها من إنتاج سلاح نووي، وإعلان بنيامين نتنياهو رفضه لأي «تفاهمات محدودة» مع إيران، وأن «أي اتفاق مع إيران لن يكون ملزماً لإسرائيل، التي ستفعل كل ما هو ضروري للدفاع عن نفسها». فهل تقنع واشنطن إسرائيل بهذه السياسة حتى تتمكن فعلياً من تجنب الأسوأ؟