بعد أن أسند قدمه المبتورة إلى عكازه، وقف مدرب السباحة مجدي التتر أمام صف من الأطفال يشرح لهم تمارين اللياقة البدنية المطلوبة قبل النزول للمياه، ويطبقها بنفسه أمام تلاميذه الذين يستعدون للنزول إلى المسبح برفقته.
تحمس الأطفال وبدأوا يقلدون مدربهم مجدي مبتور الساق، تارة يقفزون في الهواء وأخرى يلوحون بأياديهم بشكل دائري، ومرة يركضون حوله بسرعة ويستمعون إلى تعليماته حول أهمية تمارين الإحماء ونصائحه في حال أصيبوا بشد عضلي أثناء السباحة.
رسائل تعليمية
بعد أن تأكد مدرب السباحة مجدي من جهوزية الأطفال طلب منهم الجلوس على حافة المسبح على أن تلامس أقدامهم المياه، وبقدم واحدة أخذ يشرح لهم بالتطبيق العملي طريقة تحريك الأرجل في المياه، كان الماء يتطاير من بين قدمي المدرب وعلى الفور تحمس الأطفال وهتفوا له مراراً "أفضل كابتن".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
بسرعة تبدلت الأدوار، وأطلق مجدي صفارته وبدأ الأطفال في تطبيق التمرين، وشرع هو في تحفيزهم "أسرع يا أبطال، هذا جيد لكم وينقذكم من الغرق، رجاء أريد مشاهدة الماء يتطاير من بين أقدامكم"، وهكذا كان المدب يراقب تلاميذه.
لم يستغرق مجدي وقتاً طويلاً في تدريب الأطفال، فهو يعلم أنهم متشوقون لملامسة المياه والغوص فيها، لكنه قبل أن يسمح لهم بالسباحة اقترب من المسبح وأبعد العكازين عنه وقفز عالياً نحو المياه.
ويقول مجدي "يجب أن يشعر المتدربون بالأمان وحرفية مدربهم، ولأنني مبتور الطرف الأيمن أحاول أن أطبق أمام الأطفال كل خطوة أشرحها، ليس لتعليمهم فحسب بل هي رسائل لهم، أولها أن عليهم الثقة بي على رغم إعاقتي وعدم القلق عند نزولهم المسبح، وآخرها أن أكون قدوة لهم لأن الإصابات تبقى دافعاً قوياً لممارسة أي نشاط وليست حاجزاً أمام فئة المعاقين".
قصة مجدي
عندما كان مجدي في التاسعة من عمره تعرض لحادثة سير ولم يتمكن الأطباء من إنقاذ قدمه اليمنى، وكان الخيار الصحي حينها بتر الساق، ومنذ ذلك الوقت يعيش الرجل الذي يبلغ من العمر 42 سنة بقدم واحدة.
في طفولته لم يكن مجدي يجيد رياضة السباحة، لكن حتى يكون شخصاً مميزاً في المجتمع وله بصمته الخاصة تعلم السباحة وأتقنها، يقول "كان هذا تحدياً وضعته أمام نفسي، إما أن أكون شخصاً ضعيفاً وأستسلم للإعاقة أو أبدع في هذا المجال، واليوم أنا المدرب الوحيد في غزة للسباحة من فئة ذوي البتر".
لم تكن طريق مجدي سهلة، بل كان فيها كثير من الصعوبات بخاصة أنه مبتور القدم، يوضح أنه عانى في بداية تعلمه السباحة كثيراً، فهذه الرياضة تحتاج إلى شخص سليم كامل الأعضاء ليتحرك بمرونة عالية في الماء، باستخدام الأطراف السفلية بشكل متناسق، لكن في وضعه هذا تطلب الأمر منه مجهوداً مضاعفاً.
من بين متطلبات تعلم مجدي السباحة في ظل بتر قدمه كان يتوجب عليه رفع الأثقال بخاصة تمارين الأقدام حتى يقوي عضلات قدمه الوحيدة ويتمكن من الغوص، ويؤكد أن العامل النفسي يلعب دوراً أساسياً في تحقيق هذا الإنجاز والتغلب على العوائق.
يقول "وضعت رؤية واضحة وثابتة للتغلب على تحديات تعلم السباحة، وجعلت العزيمة القوة الدافعة لي، وأدركت أن الإعاقة لا تقف أمام تحقيق الأهداف والتميز، فالقدم الواحدة لا تحد من قدراتي، ولهذا كنت قادراً على تحقيق ما أريد في رياضة السباحة".
في المسبح
خارج الأراضي الفلسطينية تعلم مجدي السباحة وحصل على دورات حول الغوص العميق في مصر، وتعلم السباحة في دبي، كما حصل على شهادة إعداد مدرب سباحة من ألمانيا، وبفضل إصراره وعزيمته القوية عاد لغزة لينقل مهاراته إلى الأطفال، فهو يطمح أن يؤسس جيلاً يجيد هذه الرياضة.
نزل مجدي المسبح وكأنه سمكة تغوص في المياه، يحرك يديه بينما تدفعه قدمه الوحيدة، وعلى الفور تبعه الأطفال، يقول "أشعر بالسعادة عندما أدرب الأطفال، أعلمهم بحب وأمنحهم الثقة، وأتعامل معهم كأنني والدهم، هذا الأمر يساعدهم في تعلم السباحة".
يعشق مجدي هوايته، وهو محترف بها أيضاً، ومن شدة تعلقه بالغوص في المياه أسس مدرسة أطلق عليها "المدرسة الفلسطينية لتعليم السباحة"، ويهدف منها إلى نشر رياضة السباحة بين الصغار والكبار، باعتبار أن هذه الهواية تعمل على تفريغ الشحنات النفسية وتقلل من التوتر.
مهارات ذوي الإعاقة
خصص مجدي مهمته كمدرب سباحة لفئة الأطفال فهو يحب أن يتعامل معهم، وفي هذا الموسم الصيفي لديه خمس مجموعات يدربها، كل واحدة تضم نحو 20 طفلاً، ويوضح أن التعامل مع الصغار يحتاج إلى مهارات عالية في توصيل المعلومة بشكل يناسب هذا العمر.
وفي غزة 1900 شخص مبتوري الأطراف، وفقاً لقائمة اللجنة الدولية للصليب الأحمر، بينهم 600 فقدوا أطرافهم في الصراع مع إسرائيل، فيما البقية تعرضوا لحوادث مختلفة.
يقول مدير جمعية ذوي الإعاقة ميسر الشقرة إن جميع المبتورين في غزة يجيدون مهارات رياضية وعلى مستوى عال، وجزء منهم حقق إنجازات دولية، وهذا يدلل على أنهم جزء فعال في المجتمع وقادرون على تحدي إعاقتهم على رغم ظروف غزة الصعبة، موضحاً أن هذه الفئة تعاني الإهمال والتهميش بخاصة في ما يتعلق بحقوقهم التي كفلها القانون.