مجتمعات قوس قزح!

منذ 6 أشهر 96

الأسبوع الماضي احتفلت جمهورية جنوب أفريقيا بمرور ثلاثة عقود على أول انتخابات حرة لكل مواطني الجمهورية، بيضاً وملونين، بعد أن انتهت فترة كئيبة من الاستعمار الاستيطاني الأبيض الطويل؛ فتجربة هذا المجتمع لها أهمية إنسانية، فلم يقرر السود طرد البيض الذين جاء أجدادهم من أوروبا، بل قرروا التعايش معهم في وطن واحد.

تحدث رئيس الجمهورية الحالي سيريل رامافوزا في الجموع بتلك المناسبة، فقال: «نحتفل بعد التخلص من حكومة الاستيطان البيضاء التي عزلت المواطنين السود، ولكن نحتفل معاً بفخر لأننا تعلمنا أن العيش المشترك هو الطريق الأسلم لتنمية الاقتصاد والسلام للشعوب، فنحن الآن ننعم بالحرية والمساواة والتعددية، ونحتكم لمرجعية تجمعنا جميعاً، شعب مكون من (قوس قزح) من المواطنين، من ألوان مختلفة وديانات مختلفة، وحتى ثقافات مختلفة».

لفتت نظري تلك التجربة الإنسانية الغنية، وقد عرف العالم دور الرئيس نيلسون منديلا في صياغة هذه التوليفة، فلم يلجأ بعد أن نال حريته، وأصبح رئيساً، إلى الثأر من سجانه الذي أبقاه في سجن معزول أكثر من عقدين من الزمان، وربما تلك الروح التي ترفض الظلم أينما حل، هي التي دفعت جمهورية جنوب أفريقيا إلى أن تقدم شكوى ضد إسرائيل في محكمة الجنايات الدولية؛ لما شاهده العالم، وربما تسامح معه، من مجازر في غزة، وهو مثل ما واجهه أبناء جنوب أفريقيا من عنصرية؛ لذلك سُمعت لديهم عنصرية إسرائيل بقوة، مما جعلتهم يبادرون في حمل لواء الدفاع عن الحقوق الإنسانية؛ لما وجدوه من نظام عنصري يقوم بإبادة جماعية.

قوس قزح هو التوصيف الحقيقي لمعظم المجتمعات في عالمنا اليوم، ليس هناك مجتمع مكوَّن من مكوّن «ثقافي، عرقي، لغوي، ديني» واحد، إلا بعض المجتمعات البدائية التي تعيش على هامش الحضارة الإنسانية، معظم المجتمعات هي قوس قزح، تشترك في بعض الصفات، وتختلف في أخرى؛ لذلك لجأت الدولة الوطنية الحديثة إلى بناء منظومة قانونية تسمى لدى البعض بالدستور، أو القانون العام، وينص في الغالب على المساواة بين المواطنين مع اختلافهم.

في فضائنا العربي المشمول بالحروب الأهلية الساخنة (اليمن، ليبيا، السودان) أو الباردة في أماكن كثيرة من البقعة العربية، السبب الجذري لتنافرها وتقاتلها ما هو إلا عدم الاعتراف بقوس قزح الاجتماعي، فكل فئة تريد أن تشكّل الفئات الأخرى على شاكلتها في الاجتهاد السياسي والاجتماعي والثقافي، أي تريد حيازة الفضاء العام، وتلوينه بلونها فقط، وإبعاد الآخرين على أنهم مختلفون في اللون السياسي أو المذهبي أو العرقي، بل وحتى اختلاف اللهجة، إنه توظيف سياسي لمجموعة ضد مجموعة أخرى في الوطن الواحد.

قرع الجرس أمين معلوف (لبناني أصبح فرنسياً من أم كاثوليكية وأب بروتستانتي، وجد تركي) في كتابه الشهير «عذابات الهوية» 2004، شرح فيه كيف يمكن أن تكون الهوية (إن سُيّسَت) أداة عنف شنيعة.

من أجل التسييس والتكسب المصلحي، تم اختراع الشعار البائس «الهوية الوطنية» في فضاء كثير من المجتمعات، ففرقت الجماعات، وأنبتت الأحقاد، وحقيقة الأمر أن الدولة العربية الحديثة في معظمها فشلت فشلاً ذريعاً في تكوين «هوية» على قاعدة علمية، وهي القاعدة التي تعترف بـ«قوس قزح الاجتماعي» وتعلي التسامح بدلاً من التعصب، بل حاولت جماعات في الدولة الوطنية الحديثة أن تستحوذ على السلطة والثروة، وتفرض هويات تنتمي إليها المجموعة الحاكمة، متسيدة على الآخرين؛ لذلك تفجّرت الصراعات الساخنة التي تكاد تهلك تلك المجتمعات، وأيضاً الصراعات الباردة، والاثنتان لا تحتكمان إلى قواعد قانونية مشتركة وحاكمة يقودها العقل.

ليس ضرورياً أن تنتمي إلى دين واحد كي تذوب الفوارق، الأتراك والأكراد من دين واحد، وبل مذهب واحد، بينهم عداء في الدولة الواحدة، الهوتو والتوتسي كاثوليك يتكلمون لغة واحدة في بلد واحد (روندا) قامت بينهما مذابح بسبب العرق، وهناك أمثلة كثيرة حول العالم، تظهر أن متغيرات متعددة تأخذها «الهوية» القاتلة، وليس النمط الواحد.

حاول نظام البعث في العراق مثلاً أن «يبعثن» الشعب العراقي كله، وكان التناقض واضحاً بين «أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة»، وتقريباً ثلث الشعب العراقي من الأكراد ولهم ثقافة ولغة مختلفة؛ مما أجّج صراعاً طويلاً وفتح الباب أمام تدخلات خارجية. الحوثي في اليمن إقصائي يزيح المكونات اليمنية الأخرى ذات الانتماء العقائدي المختلف نسبياً عن انتمائه. وما الصراع في السودان إلا نوع من الإقصاء الهوياتي، يتبع نموذج الإقصاء لأبناء الجنوب في وقت سابق. أما في لبنان فقد عرف الجميع نتائج مأزق محاولات الإقصاء الدؤوبة، وبعضها حمل ظاهرياً شعارات المظلومية من جهة، ومحاربة إسرائيل من جهة أخرى، أو شعارات الأقلوية، أما حقيقتها فهي الدأب على احتكار المصالح حتى، إلى درجة «إما أن تذوب فيّ، أو أنك خارجي» تستحق الإقصاء، وفي بعضه تستحق السحق.

من هنا، فإن شعار الهوية الوطنية الرافضة للآخر في الوطن، هي من سمات الفاشية التي انتشرت بعد الحرب العالمية الأولى، وتسببت بقتل الملايين من الناس، وهي اليوم تسبب عشرات الآلاف من القتلى في غزة، وتحمل تعصباً مقيتاً، مفارقاً للطبيعة البشرية والتاريخ الإنساني، فقد اختلطت شعوب وامتزجت ثقافات وفي عصرنا أصبح الاختلاط والامتزاج صفة العصر الذي نعيشه.

ومن المفارقة أن مقتل القضية الفلسطينية هو نوع من التفرقة «الهوياتية» التي سببت التشرذم والانقسام.

اكتشاف جمهورية جنوب أفريقيا قوس قزح، لم يأتِ من فراغ، بل جاء بعد معاناة إنسانية هائلة، زرعت في الجمهور العام في تلك البلاد أهمية التوافق الوطني، والاعتراف المتبادل بالآخر، وأن لا مكان في عالمنا اليوم أن ينصهر مكون في مكون آخر.

الثقافة العربية السائدة هي إصرار على الانصهار أو التهميش الذي يقوّض منظومة الأمن الوطني، وذلك لا يخلق أوطاناً، بل يؤهل لحروب، إما ساخنة أو باردة كما نشاهد.

آخر الكلام: «نظرتنا هي التي غالباً تسجن الآخرين داخل انتماءاتهم الضيقة، ونظرتنا كذلك هي التي تحررهم». (أمين معلوف).