تمثل الأكلات الشعبية جزءاً من التراث الثقافي والطابع الاجتماعي للبلاد المختلفة، إذ تتماشى مع الظروف البيئية التي تتميز بها منطقة معينة عن الأخرى، وتختلف وتتنوع الأكلات الشعبية في مصر من أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب، فلكل منطقة ما يميزها ويتماشى مع ثقافتها ومواردها التي تشتهر بها، فالمحافظات الساحلية تختلف عن الصحراوية، وأكلات أهالي الريف تختلف عن أطعمة سكان المدن.
بعض أنواع المأكولات توارثتها الأجيال، حتى إن بعضها وجد منقوشاً على جدران المعابد المصرية القديمة وتوارثه المصريون على مر العصور بالشكل نفسه وكذلك طريقة التحضير.
وحفاظاً على جزء مهم من تراثها الثقافي والحضاري تسعى مصر حالياً إلى العمل على توثيق أكلاتها الشعبية بشكل علمي لتكون مرجعاً متكاملاً لكل المهتمين بهذا المجال ولتوثق انتماء بعض الأكلات إليها وترصد طرق إعداد المصريين لها على مر الأعوام.
المشروع تتبناه أكاديمية البحث العلمي في مصر، إذ تسعى إلى إصدار خمسة أجزاء من موسوعة شاملة تضم أنواع الأكلات المحلية من خلال رصدها والتعريف بتاريخها وطريقة إعدادها وتدعيم المعلومات بالصور والخرائط.
صدر الجزء الأول من الموسوعة تحت عنوان "الخبز والمخبوزات" ويوثق كل أشكال الخبز وأنواعه التي يعدها المصريون في أنحاء البلاد كافة والتي تختلف في الشكل والمكونات وطريقة الإعداد، ويجري العمل حالياً على إصدار الجزءين الثاني والثالث اللذين يختصان بتوثيق الأكلات المصنوعة من الحبوب والبقوليات.
ضد الاندثار
عن الموسوعة وأهدافها يقول رئيس مشروع موسوعة الأغذية الشعبية في المركز القومي للبحوث مجدي السيد لـ"اندبندنت عربية"، "تهدف الموسوعة إلى رصد تاريخ الأطعمة التراثية في مصر وتوثيق العناصر الغذائية وطرق التحضير، فضلاً عن تحديد أخطار اندثار هذه الثقافات الغذائية. والمشروع ممول من أكاديمية البحث العلمي والتكنولوجيا، وصدر منه حتى الآن ثلاثة مجلدات، ومن المنتظر صدور بقية الأجزاء تباعاً خلال الفترة المقبلة، والموسوعة ليست كتاباً للطبخ بل للتاريخ، فكل منطقة لها أكلات تناسبها طبقاً لبيئتها، فالسواحل تختلف عن الصحاري وعن المناطق الريفية وهكذا".
ويضيف "المجلد الأول من الموسوعة اهتم بالخبز والمخبوزات، وجاء في أكثر من 500 صفحة وضم مئات الصور الميدانية الخاصة بطرق إعداد المخبوزات تفصيلياً وصولاً إلى المنتج النهائي وصور من البيئة المحيطة، إضافة إلى عشرات الخرائط والأشكال الجغرافية، كما عرض صوراً لعينات الخبز المصرية في المتاحف العالمية".
أنواع مختلفة للخبز
البلدي والشمسي والبتاو والفراشيح والمجردق والقابوري والمرحرح وغيرها كثير من أنواع الخبز، أو "العيش" كما اعتاد المصريون أن يطلقوا عليه، تنتشر في طول البلاد وعرضها، وربما لا يعرف كل أنواعها بعض المصريين من المقيمين في محافظات بعيدة من الأماكن التي تشتهر بها، فلكل منها شكل وطريقة مختلفة للإعداد، يتقنها أهل المنطقة أو المحافظة، ويستخدمون فيها الموارد والمكونات المتاحة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ويختلف الخبز من منطقة لأخرى في عوامل عدة من بينها المكونات، فبعض المناطق تستخدم دقيق القمح، ومناطق أخرى تستخدم دقيق الذرة، وفي بعض المحافظات يتم الجمع بينهما، كذلك تختلف طريقة التسوية، فالأفران في المناطق الريفية (الفرن الفلاحي) تختلف عن طرق التسوية التي يعتمدها البدو في الصحراء على سبيل المثال والتي من بينها التسوية عن طريق الدفن في الرمال، كما أن هناك مناطق تعتمد فكرة تخمير العجين ومناطق أخرى لا تعتمدها، ومن هنا نجد أنواعاً وأشكالاً عدة من الخبز تختلف اختلافاً كبيراً في ما بينها.
يقول السيد "قدمت الموسوعة تأصيلاً اجتماعياً وتاريخياً للخبز والمخبوزات في مصر بمختلف العصور، بداية من الدولة المصرية القديمة وحتى الدولة الحديثة من خلال المكونات والفوائد الغذائية وطرق الإعداد، ويأخذ المجلد القارئ في رحلة إلى ربوع مصر كافة للتعريف بأنواع الخبز التي تميز كل منطقة، فخبز الصعيد يختلف عن الوجه البحري، والمناطق الصحراوية تشتهر بأنواع أخرى لاختلاف طبيعة البيئة، بالتالي اختلاف الموارد المتاحة وطرق الإعداد، إلى جانب أصناف عدة من الفطائر والمقليات اشتهرت بها مصر على مر الأعوام".
ويضيف "بعض المناطق في مصر حافظت على تراثها الغذائي منذ عهد مصر القديمة مثل الصعيد على سبيل المثال، فبعض الأكلات المتداولة حالياً هي ذاتها الموثقة على جدران المعابد المصرية القديمة، وتقدم الموسوعة وصفاً تفصيلياً لطريقة التحضير والأدوات المستخدمة، وتربط الأكلات بالموقع الجغرافي من خلال الخرائط، إضافة إلى رصد أخطار الاندثار بالنسبة إلى بعض الأكلات التي قل إعدادها ولم تعد موجودة بكثرة مثل السابق على رغم أنها جزء من التراث الثقافي والغذائي للمصريين".
جزء من التراث
تسجيل الأكلات على قائمة التراث العالمي لـ"يونيسكو" أصبح واحداً من أهداف دول كثيرة، باعتبار أن الطعام يمثل جزءاً من التراث الثقافي والحضاري لأية دولة، وتمتلك مصر أكلات تراثية عدة تعود لآلاف السنين ويمكن أن تسعى إلى تسجيلها على قوائم التراث العالمي، بخاصة مع ادعاء بعض الدول أن أكلات معينة تنتمي إليها على رغم عدم صحة هذا الأمر.
يشير السيد إلى أن "الموسوعة كتبت باللغة الإنجليزية مع ملخص واف بالعربية يتذيل كل نوع من أنواع الأكلات، والسبب في هذا هو الحرص على أن تكون المعلومات مناسبة للتداول الدولي، بخاصة أن الهدف من مثل هذه المعلومات مخاطبة المجتمع العلمي الدولي المعني بجهود التوثيق الثقافي، إضافة إلى العمل على تسجيل أشهر الأكلات الشعبية على قوائم يونيسكو مثل البصارة والكشري والطعمية، وكذلك عمل مؤشر جغرافي لبعض الأغذية مثل الكشك الصعيدي والجبن الدمياطي وغيرهما كثير من الأكلات التي تشتهر بها مناطق مصرية عدة".
ويضيف "تتناول الموسوعة محاور عدة لكل نوع من الطعام مثل الاسم والوصف وسبب التسمية والمنشأ وطريقة التحضير، وغيرها كثير من التفاصيل المعنية بكل أكلة، وإلى جانب الشق الأكاديمي قام الباحثون بزيارات ميدانية إلى المناطق التي تشتهر بهذا النوع أو غيره من الغذاء، وأجروا مقابلات ووثقوا طريقة إعداد الأكلات كتابياً وبالصوت والصورة، وبالفعل تمت زيارة عدد من المحافظات من شمال مصر إلى جنوبها لتوثيق أكلاتها الشعبية الشهيرة، وعند اكتمال أجزاء الموسوعة ستكون مرجعاً متكاملاً للأكلات الشعبية المصرية في المحافظات كافة".