متاهة الحائرين

منذ 1 سنة 143

صدر مؤخراً كتاب قيم للأديب اللبناني وأمين السر الدائم للأكاديمية الفرنسية أمين معلوف، عن دار النشر الفرنسية العريقة «كراسييه»، بعنوان «متاهة الحائرين – الغرب وخصومه»؛ ويرجع بنا هذا الكتاب عن طريق استحضار عوامل من التاريخ إلى تجليات المواجهة الحالية بين الغرب وخصومه من خلال تقصي مسار أربع دول عظمى: اليابان الأولى في عصر ميجي، وتعرف اليوم تطوراً صناعياً أبهر العالم أجمع، وروسيا السوفياتية التي شكلت لمدة ثلاثة أرباع قرن من الزمان تهديداً كبيراً للغرب قبل أن تنهار، ثم الصين التي تمثل في هذا القرن الـ21 التحدي الرئيسي لتفوق الغرب بتنميتها متعددة الجوانب وثقلها الديمغرافي وآيديولوجيتها المختلفة، وأخيراً الولايات المتحدة الأميركية التي وقفت في وجه الخصوم الذين تحدوها وهي التي أصبحت الدركي الكبير والقوة العظمى الأولى على كوكب الأرض.

وفي هذا السياق، حق لأمين معلوف أن يتساءل: «هل هناك حقاً تراجع غربي؟» يجيب الكاتب منذ مقدمة الكتاب بنعم؛ فالسقوط حقيقي، ويأخذ في بعض الأحيان مظهر الإفلاس السياسي والأخلاقي، ولكن من يحاربون الغرب ويتحدون تفوقه لأسباب جيدة أو سيئة يواجهون هم أيضاً فشلاً أخطر من فشله، لأنه لا الغربيون ولا خصومهم قادرون اليوم على إخراج البشرية من المتاهة التي يقبعون فيها، وبالتالي لا بد من إعادة التفكير في الميكانزمات والطرق التي يُحكم ويسير بها عالمنا من أجل بناء مستقبل أكثر أماناً للأجيال المقبلة وإيصالهم إلى بر من الأمان يكون خالياً من الحروب الباردة أو الساخنة، ومن صراعات لا نهاية لها من أجل الهيمنة.

ويبدأ أمين معلوف كتابه بقناعة ويختم بها مفادها أننا نتبع طريقاً معوجاً وخاطئاً عندما نظن أن البشرية لا بد أن تكون لها قوة مهيمنة على رأسها، وأن تكون هاته القوة الأقل سوءاً أي تلك التي لا يجب أن تهضم الآخرين... فلا أحد يستحق أن يتبوأ هذا الموقف الساحق، لا الصين ولا أميركا ولا روسيا ولا الهند ولا إنجلترا ولا ألمانيا ولا فرنسا ولا حتى أوروبا الموحدة، إذ إن الجميع بلا استثناء سيصبحون متعجرفين ومفترسين وطغاة ومكروهين، إذا وجدوا أنفسهم قادرين على كل شيء، حتى لو كانوا حاملين لأنبل المبادئ، لأن هذا هو الدرس العظيم الذي يقدمه لنا التاريخ، وإذا فقهنا ذلك جيداً سيكون ذلك أساساً لحلول مرضية للبشرية.

نتمنى كلنا ذلك، ولكن المشكلة في نظري أكبر من ذلك؛ لأن النظام العالمي أصبح أولاً موسوماً بالغموض والمجهول وعدم اليقين وصعوبة التنبؤ بما سيقع، ثم ثانياً أضحى الفاعلون فيه في ازدياد مستمر، فنحن إذا نظرنا من زاوية سوسيولوجيا العلاقات الدولية سنخرج بقناعة أن القوة كانت في النظام القديم موزعة بنمط يشبه لعبة شطرنج معقدة ثلاثية الأبعاد؛ فعلى رقعة الشطرنج العليا، نجد القوة العسكرية أحادية القطب إلى حد كبير، واحتفظت أميركا بتفوقها في ذلك، فإلى حدود الساعة أميركا هي الدولة الوحيدة التي يمكن أن ترسل قوات رادعة إلى مناطق مختلفة في العالم، أما على رقعة الشطرنج الوسطى، فقد ظلت القوة الاقتصادية متعددة الأقطاب طوال أكثر من عقد هي المحددة، واللاعبون الرئيسيون هم بالخصوص الولايات المتحدة وأوروبا واليابان والصين، إلى جانب آخرين لهم أهمية آخذة في التزايد، وأما رقعة الشطرنج السفلى، فهي مجال العلاقات العابرة للحدود الوطنية، وهي تشمل أطرافاً فاعلين ليسوا دولاً، كالمصرفيين الذين يحولون الأموال إلكترونياً، والإرهابيين، والمتسللين (القراصنة) الذين يهددون الأمن الإلكتروني، والتحديات التي تعد من قبيل الأوبئة وتغير المناخ إلى غير ذلك.

ونظرية أمين معلوف تحيلنا إلى فكرة أخرى كان قد طورها في كتاب سبق وأن ألّفه سماه «غرق الحضارات»... فهناك في نظره أمم ناشئة أو وليدة، تظهر وبقوة الآن على الساحة الدولية التي يسيطر عليها سباق التسلح، ويفرض نفسه على الجميع، فضلاً عن التهديدات الخطيرة المتعلقة بالمناخ والبيئة والصحة، وهي تهديدات تلقي بظلالها على الكوكب، وبالتالي «لن نتمكن من مجابهتها إلا بالتضامن الشامل الذي يجب أن نتحلى به، لأنه يمثل السبيل الوحيدة أمامنا للخلاص من التهديدات المحدقة بنا»، وفي الوقت نفسه يعزز الكاتب أطروحته «غرق الحضارات» بالتأكيد على حالة التحولات الكبرى التي تعرفها الساحة الدولية وتنعكس أيما انعكاس على الحضارات، فالولايات المتحدة الأميركية تعرف تغييرات جذرية على الساحة الدولية كما أنها تتجه إلى فقدان مصداقيتها الأخلاقية في العالم، بما يؤثر سلباً على صورتها الذهنية. وفيما يتعلق بالقارة الأوروبية التي كانت «تتشدق في السابق أمام مواطنيها بالمبادئ الإنسانية والأخلاقية»، يرى المؤلف أنها تعرف اليوم تبني سياسات عمومية هي نقيضة تلكم المبادئ، في الوقت الذي ينغمس فيه العالم العربي والإسلامي في قلب أزمة عميقة تتفاقم رويداً رويداً...

ولكن إذا سمح لنا بتشريح مستوفٍ للساحة الدولية عبر العصور سنخرج بقناعة أن التناقضات لم تتوقف يوماً من الأيام بل كانت في بعض الأحيان أكبر مما هي عليه اليوم وتجعلنا نقول إن الحضارات باقية باقية ولن تغرق ما دامت الموارد الاقتصادية، والنظم السياسية، والتقاليد الخلقية، ومتابعة العلوم والفنون، وهي مكونات الحضارة، مستمرة؛ ولكن الذي سيقع هو أن الصراع في النظام العالمي سيبقى محتداً وسيكون هناك تراجع نسبي للولايات المتحدة في النظام العالمي، وتراجع هيبتها؛ وسيسطع نجم دول أخرى مثل الصين ودول أخرى لن تكون لها الهيمنة كما كانت لأميركا طيلة عقود، ولكنها ستكون مؤثرة اقتصادياً وصناعياً وستقود تحالفات عسكرية لا غربية، لأنها استطاعت فهم العولمة والارتماء في قواعدها بذكاء ونجاح، وهي تقول مثلاً لأي دولة تتعامل معها تجارياً أن أي نجاح اقتصادي تحققه دولة، لا يعني بالضرورة فشل الآخر أو حمله على الفشل في إطار ثنائية «صديق - عدو»، وإنما في إطار «رابح - رابح» win - win.