ثلاث سنوات مرت منذ أن أقفلت الصين أبوابها بداية الجائحة، وعانت الصين خلالها، مثل غيرها من الدول، من تبعات الانعزال عن العالم، ولكن المعاناة الإضافية لها كانت سياسة «صفر كوفيد» التي استمرت حتى ديسمبر (كانون الأول) الماضي، وأضرت كثيراً بالاقتصاد الصيني. وعندما أنهت الصين هذه السياسة استبشر العالم خيراً بعودة الصين، متوقعاً أن تظهر بوادر تعافي الاقتصاد الصيني خلال تقارير الربع الأول من العام الحالي، هذه التقارير أظهرت أن الاقتصاد الصيني تعافى بالفعل وبشكل أسرع من المتوقع! لذلك فحين أعلن صندوق النقد الدولي الأسبوع الماضي توقعاته لنمو هذا العام، رفع توقعاته لنمو الاقتصاد الصيني من 4.3 في المائة، التي أعلن عنها في أكتوبر (تشرين الأول)، إلى 4.6 في المائة، وهي التي شهدت الصين فيها إحدى أسوأ سنواتها العام الماضي خلال الثلاثة عقود الماضية حين بلغ نموها 3.8 في المائة. فماذا يعني أن تتعافى الصين اقتصادياً لبقية العالم؟ ولماذا يستبشر العالم (حتى وأعداء الصين من ضمنهم) بنمو الصين الاقتصادي؟
السبب الأول لاستبشار العالم هو أن الصين المحرّك لنمو الاقتصاد العالمي، ففي عام 2019 شكّلت الصين نحو 19 في المائة من نمو الاقتصاد العالمي، وجوهر ذلك في نمو الاقتصاد العالمي في المستقبل لن يقل عما هو عليه الآن إن لم يزد. وفي تقريره الأخير، بيّن صندوق النقد أن نصف نمو العالم تقريباً يأتي من الصين والهند، وقد أشارت تقارير أخرى أن نحو 70 في المائة من النمو العالمي في آسيا. وقد تعافى الاقتصاد الصيني في الربع الأول بفضل نمو القطاع الاستهلاكي، فبعد سنوات الانعزال، انطلق الشعب الصيني لينفق ما ادخره خلال فترة الجائحة، فنمت مبيعات قطاع التجزئة بأفضل من المتوقع. وتعافى القطاع العقاري بشكل ملحوظ، فزادت القيمة السوقية لأكبر مائة شركة عقارية صينية بنسبة 31 في المائة مقارنة بالوقت نفسه في العام الماضي.
أثر نمو الاقتصاد الصيني لا يقف على الحدود الصينية فحسب، بل يمتد إلى الدول الأخرى، وهو سبب إضافي لاستبشار العالم بتعافي الصين والأمثلة على ذلك كثيرة. أول هذه الأمثلة من أوروبا، حيث حققت كل من شركتي «لويس فيتون» و«هيرمز» الأوروبيتين، وهما متخصصتان في المنتجات الفاخرة، نتائج قوية للربع الأول من هذا العام بفضل نمو الطلب الصيني. بل إن الأولى أصبحت أول شركة أوروبية تزيد قيمتها السوقية على 500 مليار دولار. ثاني هذه الأمثلة من أستراليا، حيث شهدت الصادرات الأسترالية للصين نمواً مذهلاً في الربع الأول زاد على 30 في المائة، مقارنة بالفترة نفسها في العام الماضي لأسباب منها انتعاش قطاع العقار الصيني، وتحسن العلاقات بين البلدين.
ولا تزال بلدان كثيرة تنتظر بفارغ الصبر تبعات تعافي الصين، من هذه الدول تايلاند واليابان وهونغ كونغ وأستراليا، وهذه الدول هي بعض الوجهات المفضلة للسياح الصينيين، حيث تستقبل سنويا ملايين السياح الصينيين الذين يعتمد عليهم القطاع السياحي بشكل أساسي. ولا تزال هذه الدول، وبالتحديد تايلاند، تعاني من انقطاع السياح الصينيين الذين تنتظر عودتهم هذا العام لينعشوا القطاع السياحي وقطاع الطيران في آسيا.
أما السبب الثالث فهو أن الإعلان عن هذا النمو يأتي في وقت يعاني فيه الاقتصاد العالمي من مسببات عاصفة. والدول الأوروبية تعاني من تبعات الحرب الروسية الأوكرانية، وما زالت تحارب مع الولايات المتحدة التضخم، وترفع سعر الفائدة لكبحه، مما قلل نسب النموّ الاقتصادي. وتجاهد الدول الأوروبية وأمريكا كذلك لمنع كارثة في القطاع المصرفي تنتقل من بنك إلى آخر لأكثر من شهرين. فجاءت أخبار نمو الاقتصاد الصيني لتكون نقطة مضيئة في ظلام الأزمات الاقتصادية الحالك.
إن نمو الصين في الربع الأول لا يزال غير مستقر حتى الآن، وهذا بحسب المصادر الصينية نفسها. ولكن العالم مع ذلك كان بحاجة ماسة إلى بارقة أمل في انتعاش الاقتصاد العالمي، وهو بالفعل لا يمكنه الاستغناء عن نمو الصين وهي ثاني أكبر اقتصاد في العالم. فمن ناحية الطلب، فإن دورها مهم في حجم الطلب على مصادر الطاقة، وسوقها المحلية لا يمكن الاستهانة بها على المستوى الاستهلاكي، وذلك مطمع لكثير من الشركات حول العالم. كما أن ثقلها كمركز لسلاسل الإمداد يجعل تأثيرها يمتد لجميع دول العالم حتى مع المحاولات الغربية لإيجاد بديل لها، ولذلك يمكن القول إن انتعاش الصين الاقتصادي ينعش جميع دول العالم، وهو ما قد يشهده العالم هذا العام.