قديماً قال سقراط "تكلم حتى أراك"، وربما لو كان حياً اليوم لقال، "أرني صفحاتك الشخصية على مواقع التواصل الاجتماعي حتى أستطيع التعرف عليك" بعدما أصبحت وسائل التواصل الاجتماعي جزءاً رئيساً من الحياة اليومية لملايين البشر حول العالم، وصارت من المؤشرات التي تعكس اهتمامات الشخص وميوله، وفي بعض الأحيان آراءه وتوجهاته السياسية ومواقفه من القضايا الاجتماعية إلى جانب مشاركاته فيما يتعلق بحياته الشخصية من صور أو أحداث مختلفة، مما يجعلها مرآة تعكس جزءاً كبيراً من شخصيته.
وفي السنوات الأخيرة أثير جدل كبير حول العلاقة بين جهات العمل المختلفة وصفحات موظفيها، وهل يحق لها التدخل في المحتوى الذي ينشرونه؟ أم أنه أمر يخضع للحرية الشخصية للموظف، ولا يحق لها التدخل فيه؟ وما الضوابط الحاكمة لهذا الأمر؟ وهل تختلف باختلاف المهن؟
تقول "ن. السيد" (25 سنة)، معيدة بإحدى الجامعات الخاصة المصرية، "صفحاتي الشخصية أمر يخصني لا يتعلق بالعمل، ونادراً ما أنشر عليها شيئاً يخص وظيفتي. في واحدة من المرات نشرت صورتي على أحد الشواطئ أثناء إجازتي، ثم فوجئت بعميدة الكلية لاحقاً تنبهني إلى أن الزي الذي ارتديته لا يتناسب مع وضعي، ولا يصح أن يراني الطلبة بهذه الصورة، بخاصة أن سنهم قريبة منى، وبالفعل استجبت إليها وحذفت الصورة".
ويحكي شادي حسين الذي يعمل في مجال التسويق عن تجربته مع المؤسسة التي كان يرغب في العمل بها، "بينما كنت أقدم على وظيفة بإحدى الشركات كان من بين الأشياء المطلوبة للتقديم إرسال الصفحات الشخصية على مواقع التواصل الاجتماعي إلى جانب السيرة الذاتية وشهادات الخبرة. رأيت هذا شيئاً غريباً وغير منطقي، ولا يدعو إلى الراحة، فما شأن الشركة بهذا؟ ولماذا يرغبون في الاطلاع عليه؟ من المفترض أن يهمهم خبراتي وكفاءتي للعمل، لا ما أقوم بنشره على التواصل الاجتماعي".
توجهات الشخص والمؤسسة
وبينما يرى البعض أن التوافق بين توجهات الشخص والمؤسسة "أمر جيد" سينعكس في صالح العمل، فإن آخرين يعتقدون أن الآراء الشخصية لا ينبغي أن يكون لها محل في علاقة العمل، وأنها تندرج تحت حرية التعبير.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
يقول سامر عوض استشاري ومدرب الموارد البشرية، "في السنوات الأخيرة أصبح الاطلاع على صفحات التواصل الاجتماعي للمرشح لوظيفة بعينها شائعاً بالفعل، سواء جرى ذلك بطلب مباشر أو قام مسؤول التوظيف بالبحث عنها بنفسه، والغرض من ذلك هو محاولة التعرف على جوانب من شخصيته وآرائه، والتعرف على مدى توافقها مع معايير المؤسسة".
ويلفت عوض إلى أن فكرة البحث عن توجهات المرشح للوظيفة "ليست حديثة، لكن اختلفت الوسيلة التي من ضمنها حالياً الاطلاع على صفحاته على مواقع التواصل الاجتماعي، باعتبارها شيئاً أساسياً في حياة الناس".
ويضيف عوض، "من حق الشركات الاطلاع على صفحات الموظفين على منصات مهنية، مثل (لينكد إن) على سبيل المثال، بوصفها معنية بصورة مباشرة بالجانب المهني، لكن متابعة منشورات أو صور الشخص على منصات أخرى قضية خلافية، إذ إنها ليس لها أهمية على سير العمل. وعلى أرض الواقع المؤسسات ترغب في تعيين من يشبه توجهاتها، ومن هنا تسعى إلى التعرف على جوانب من شخصيته وطريقته وأسلوبه في التعبير عن آرائه لتجنب المشكلات مستقبلاً".
طبيعة الوظيفة
توجد نوعيات معينة من الوظائف لا يمكن التفريق فيها بين الشخص وصفته الوظيفية، من ثم ما ينشره يحسب عليه في جميع الأحوال، ومنهم الأطباء، فليس معقولاً أن ينشر طبيب محتوى يتضمن أشياءً غير صحية، أو يدعو إلى التدخين على سبيل المثال، مما يؤدي إلى فقدان المؤسسة الطبية التي يعمل بها صدقيتها.
تقول "دينا. أ"، التي تعمل في إدارة واحدة من المؤسسات الإعلامية، "في فترة من الفترات عملت في مؤسسة تهتم بقضايا البيئة، كان يطلب منا بصورة غير رسمية نشر محتوى داعم لهذا الاتجاه، أعتقد أن هذا الأمر يتعلق بطبيعة العمل نفسها، فمن يعمل إدارياً في مكان سيختلف عمن يعمل في مؤسسات ذات توجهات معينة، مثلاً إذا كان هناك شخص يعمل في مؤسسة معنية بحقوق المرأة، فلن يعقل أن ينشر محتوى يتناقض مع هذا الفكر، لأن هذا سيفقد المؤسسة صدقيتها، بخاصة إذا كان يشير على صفحته إلى عمله بها".
وتضيف دينا، "في السياق ذاته أرى كثيراً من الصحافيين والعاملين في المجال الإعلامي يكتب على صفحته الشخصية أن آراءه تعبر عنه، لا عن أية مؤسسة يكتب أو يعمل فيها، فطبيعة العمل هي ما يحكم الأمر، لأن هناك مهناً لا يمكن التفريق فيها بين شخص الإنسان وطبيعة عمله".
ماذا يحكم الأمر؟
الشائع في العالم العربي هو عدم وجود نظام محدد للعلاقة بين المؤسسات والصفحات الشخصية لموظفيها على مواقع التواصل الاجتماعي، غير بعض الملاحظات التي يمكن أن تقال بصورة غير رسمية من إدارات التوظيف للعاملين بما يتلاءم من التوجهات العامة للمؤسسة.
تقول نهى جمال، مسؤولة توظيف بإحدى الشركات، "عملت في هذا المجال ما يقارب 20 عاماً في أكثر من مكان، وحقيقة الأمر السوشيال ميديا أصبح لها تأثير كبير في تقديم صورة المؤسسة للجمهور، سواء بما تقدمه أو بما ينشره العاملون عيها. بعض المؤسسات تطلب من العاملين نشر مواد دعائية خاصة بها، وأخرى تشترط عليهم عدم الحديث في موضوعات معينة أو قضايا معينة، بينما هناك مؤسسات لا تهتم بالأمر على الإطلاق، وغالباً الفيصل هنا هو حجم المؤسسة وطبيعتها، فالشركة الصغيرة ستختلف بالقطع عن الكيان الاقتصادي الكبير الذي يطمح برسم صورة ذهنية معينة".
وتضيف جمال، "عدد محدود من المؤسسات يكون لديها ما يطلق عليه سياسة استخدام وسائل التواصل الاجتماعي، وتتضمن جزءاً يتعلق بما هو غير مسموح للعاملين نشره على صفحاتهم، ويطلع الموظف عليها مع بداية تعيينه، لكن هذا النظام لا يزال في بداياته، وغالباً هذه الملاحظات تكون شفوية وغير مدرجة في عقود أو أوراق رسمية، وغالباً أيضاً يمكن التحايل عليها، فالمؤسسة يمكن أن تنهي عملها مع شخص بسبب منشوراته، لكنها لن تعلن ذلك صراحة، وستعلله بأي أسباب أخرى، مثل سوء الأداء أو تقليل النفقات، وما إلى ذلك".
ويتفق معها مدرب الموارد البشرية سامر عوض، "في غالب الأحوال لا يوجد شيء منصوص عليه في عقود العمل يتعلق بهذا الأمر، لكن يحدث بصورة لا تخضع لضوابط محددة، ويكون وفقاً للثقافة العامة للمؤسسة وطبيعتها، لكن في حال إن وجد فسيكون وقتها العقد شريعة المتعاقدين، وعلى كل منهما الالتزام، وفي الوقت ذاته لا يوجد في العالم العربي حتى الآن قوانين حاكمة لهذه المسألة، وإن كان وجودها ذاته سيكون ليس بالسهولة التي يتصورها الناس، فحتى في أكثر الدول ادعاءً للحرية والديمقراطية يدفع الناس ثمن آرائهم ومواقفهم من قضايا معينة، وظهر ذلك جلياً في الفترة الأخيرة مع أحداث غزة على سبيل المثال".