لم يصدق الناس قبل 100 عام ما زعمه العلم حينها أن بإمكانه جعل الإنسان قادراً على الهبوط فوق سطح القمر أو أية كواكب أخرى، لذلك عبر الطيار والروائي الفرنسي أنطوان دو سانت إكزوبيري (1900- 1944) عن رأيه في هذا الادعاء من خلال روايته الشهيرة (الأمير الصغير 1943) التي تحولت إلى رسوم متحركة يابانية أذيعت عام 1978 عبر محطات عربية عدة تحت اسم "الرحالة الصغير".
ومن خلال الرسوم المتحركة رصدت الثقافتان اليابانية والفرنسية شعور إنسان ذلك الوقت تجاه ذلك الادعاء وعبرتا عنه مجازاً من خلال اختيار شخصية طفل صغير ليكون بمثابة بطل خارق يلتقط النجوم بشبكته ويطير نحو كوكبنا، وباتت الصياغة الأدبية والفنية أقرب إلى محادثة لطيفة تتقبلها شخصيات الفيلم الحقيقية، أهل الأرض، لأنها ترد على لسان طفل صغير يكذب ببراءة أو يبالغ ليتجاذب أطراف الحديث مع البشر أثناء زياراته المتكررة التي يخوض خلالها مغامرات عدة في مناطق مختلفة من الكرة الأرضية.
تهدف رحلة الأمير الصغير في كل حلقة من العمل إلى دعم جهود سكان كوكب الأرض في تحقيق ذلك الحلم المتجسد في غزو الفضاء أو حتى استعماره، ما ظل مستحيلاً أو غير منجز بالكامل حتى يومنا هذا. ويقوم الرحالة بذلك من خلال بث أفكار جديدة تتحدث عن حاجة الإنسان إلى اختراع أدوات ووسائل مبتكرة وغير تقليدية تكون مهمتها إخراجه من مأزقه المتمثل في العجز عن بلوغ هذا الهدف الكبير خلال قرون عدة غابرة.
وتبين الحلقة الأولى تحديداً من العمل أن على الإنسان تغيير طريقة تفكيره إن أراد بلوغ هدفه هذا وأن عليه الاعتراف بدور العلم عموماً والآلة تحديداً في حسم هذا الصراع الأزلي الذي فشل في تحقيقه ضمن قدراته الذاتية المتواضعة ودفع مقابل ذلك تضحيات جسيمة تمثلت في سقوط مئات الضحايا من البشر أثناء ذلك.
كارلوس وعمه بيدرو
في أولى رحلاته إلى الأرض يهبط الرحالة الصغير في قرية صغيرة بالقرب من سلسلة جبال الأنديز في أميركا الجنوبية، وهناك يقابل كارلوس الطفل الذي مات والده أثناء محاولة بلوغ قمة الجبل، فيما عمه بيدرو منهمك بصناعة المنطاد الذي سيحمله نحو القمة حتى لا يواجه مصير شقيقه، وينجح الرحالة بمساعدة العم بيدرو في إقناع الفتى الذي حاصرته قمم الأنديز الشاهقة بالقفز نحو المنطاد والصعود به نحو قمة الجبل، ويؤكدان للفتى الصغير المتحمس والمندفع أنه ليس من الخطأ الاستعانة بأية وسيلة لبلوغ الهدف بدلاً من الموت أثناء ذلك.
ويعد هذا التنظير المشترك عبر الرواية والرسوم المتحركة تأسيساً فكرياً آسيوياً وأوروبياً، يتخذ من الحكمة وسيلة لإقناع الأجيال الجديدة بضرورة استعانة الإنسان بالآلة لبلوغ أهدافه الكبيرة وعلى رأسها بلوغ الفضاء والصعود فوق سطح القمر، لكن الأحداث التي أعقبت هذا الفيلم وحتى يومنا هذا تبين لنا أن سقف الحلم كان شاهقاً بدليل أنه بقي غير منجز حتى إبان التطور التقني في زمن الذكاء الاصطناعي الحالي إلى درجة أن وكالة الفضاء الأميركية (ناسا) عبرت أخيراً عن التنازل الموقت عن الحلم بسبب ما وصفته بالكلفة الباهظة وبطء التقدم التكنولوجي.
مأزق الحياة في الفضاء
منذ أيام قليلة وعبر مقالة مشتركة تحدث عدد من مديري وكالة الفضاء الأميركية رسمياً عن استبدال مصطلح أجسام طائرة بمسمى آخر هو "ظواهر غير محددة تشبه أجساماً طائرة" ويأتي ذلك على ضوء تسجيل مشاهدات جديدة لهذه الأجسام، إذ يسجل مواطنون وطيارون تجاريون ومراقبون للأرصاد الجوية ما يقرب من 100 حالة مشاهدة شهرية تقول "ناسا" إن واحدة أو اثنتين منها يمكن أخذها على محمل الجد، مما يؤكد أن الناس لم يفقدوا أملهم في وجود حياة أخرى خارج كوكبنا، ومنذ وقت "الرحالة الصغير" نصاً وفيلماً وحتى وقتنا هذا ظل الناس يترقبون من "ناسا" تأكيد هذا الحلم، فيما يشير تغيير المصطلح والتنازل عن مسمى الأجسام الطائرة إلى تقهقر جديد في الطريق للحلم.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ومن المفارقات أن التراجع المستمر في هذا الحلم الذي لم تنجح "ناسا" في تحقيقه حتى يومنا هذا يأتي في ظل تحذير كثير من عرابي الذكاء الاصطناعي من خطورة انتشاره، مما يجعل التنظير الذي وضعه النص الروائي الفرنسي وفيلم الرسوم المتحركة الياباني على لسان "الرحالة الصغير" وقتها مجرد مبالغات طفولية لم تصبح قابلة للتحقق حتى بعد قرن من إطلاقها، وبما يؤشر إلى أننا ما زلنا بعيدين فعلاً من الحلم، وربما يكون ذلك نتيجة لانحراف الذكاء الاصطناعي نحو الربح التجاري بدلاً من المضي قدماً نحو الهدف المرسوم.
روح الحكاية
حافظ استوديو "كناك برودكشنز" الذي أنتج فيلم الرسوم المتحركة وبثه عبر محطات عربية عدة في سبعينيات القرن الماضي على روح الحكاية، ولم يغير كثيراً من مفرداتها، ومن أهم الرموز التي نقلها العمل بدقة وبما يناسب ذائقة المتابع الصغير، رمز الوردة الحمراء التي تجسد الأنثى وفق ما تخيلها أنطوان دو سانت إكزوبيري لأنها كائن انتهازي يستدر عطف الرجل ومن ثم يغادر عالمه في أقرب فرصة ممكنة، أما الطيور البرية التي تنقل الأمير نحو المجرة الأرضية، فهي ترمز إلى وسائل النقل البدائية التي ظلت متاحة حتى زمن الطيران بالآلة، ومن وسائل النقل تلك المنطاد، ومن الملاحظ أن شكل المنطاد الذي تخيله اليابانيون في رسومهم حينها مطابق تماماً لأيقونة "غوغل مابس" وثقافة الملاحة والتنقل الحديثة، إضافة إلى رموز أخرى كثيرة.
أنهى أنطوان دو سانت إكزوبيري قصته "الأمير الصغير" قبل وفاته بوقت قليل وعاش حياة قصيرة، إذ كان طياراً وسقطت به الطائرة "ضمن مهمة من أجل فرنسا" وهو بعمر الـ44 سنة وظل جثمانه مفقوداً للمدة ذاتها، إذ عثر عليه بالقرب من سواحل مارسيليا بعد 44 عاماً من وفاته، ويمكن وصف حياة الرجل بأنها مليئة بالأحداث المؤسفة والتناقضات، فوالده الرجل الثري النبيل توفي قبل أن يبلغ هو عمر خمس سنوات، فتحولت أسرته إلى الفقر ومات أخوه حين بلغ 15 سنة.
لذلك تمتلئ حكايته بمفردات الوحشة والعزلة وتظهر بوضوح من خلال شخصية الرحالة الصغير الآتي من كوكب آخر، إذ تعد أهم مفارقات العمل أن هذا المخلوق بشري وليس فضائياً مثل مخلوقات "ستارغيت" التي تعجز عن التنفس في الأرض أو حتى هجيناً مثل "سوبرمان"، وبهذا يكون الشق الخيالي من العمل متعلقاً بالكوكب الصغير وليس بالأمير الصغير وتكون العزلة المقصودة من العمل عزلة كائن موجود على الأرض بين ملايين البشر، اختار المؤلف أن يعبر عنها من خلال استثمار حلم الإنسان القديم باستعمار الفضاء وتحقيق الحياة على كوكب آخر ضمن سياق فني تخيلي بالكامل.