ماذا بعد «الطوفان»؟

منذ 1 سنة 157

عملية طوفان الأقصى التي شنَّتها حركة «حماس» على إسرائيل، قد تُغيِّر مسار المنطقة بأكملها لعقود، ولن يلتئم الجرح الإسرائيلي بسرعة أو سهولة جراء الإهانة وعدد القتلى والجرحى والرهائن، إضافة إلى سلسلة الاختراقات الناجحة والهجمات الصاروخية المنسقة التي نفذتها «حماس». والرد الإسرائيلي، حتى اليوم، قصف جنوني هستيري على القطاع، ومئات القتلى وآلاف الجرحى، ودمار يفوق الوصف، حتى كلمة مأساة لا تفي لوصف العملية الفلسطينية، والرد الإسرائيلي عليها ونتائجه.

ليس من المبالغة تشبيه الحرب الدائرة اليوم بحربي 1967 و1973، بل قد تتجاوزهما تأثيراً على المنطقة وميزان القوى فيها، لما لها من خلفيات وتداعيات، نوجزها في ثلاثة عوامل: الفلسطيني، و«الإقليمي- الدولي»، والإسرائيلي، مع اختلاف الأحجام بينها.

بالنسبة للعامل الفلسطيني، لن نتحدث عما لحق بالفلسطينيين على مدى سبعين سنة، من تنكيل وتشريد وهضم حقوق على أيدي إسرائيل، قد تبرر استخدامهم للعنف، ولا عن متاجرة كثيرين بقضيتهم، ولا عن خطايا منظمة التحرير الفلسطينية، وتلوثها في مستنقع التجاذبات العربية، بل سنتحدث عن خذلان الفلسطينيين أنفسهم، وإضاعة الفرص حين كانت سانحة، لدرجة لا يصح معها تحميل المحتل وحده ما آلت إليه أوضاعهم، رغم مسؤوليته الجسيمة. نبدأ بالمساهمة في إفشال اتفاق «أوسلو»؛ الذي سمح بنشأة السلطة الوطنية الفلسطينية، ومهّد لحل الدولتين، إن برفض عشرة فصائل فلسطينية له، أو بأداء ياسر عرفات، الملتبس، من السلام، ومواصلته دعم «النضال المسلح» من تحت الطاولة، والذي تُوج بـ«انتفاضة الأقصى» عام 2000، والأهم الفشل الذريع في وضع أسس صالحة لقيام دولة.

محطة الخذلان الثانية كانت عام 2007، عندما قررت «حماس» أن توقف أي مفاوضات مع حكومة «الوحدة الوطنية»، واستولت على غزة بقوة السلاح، وألقت بالفلسطينيين من جماعة «فتح» أحياءً من فوق أسطح البنايات، مشرعة الباب لصراع «فلسطيني- فلسطيني» لم ينتهِ، والأهم أنه سمح لإسرائيل بالترويج للخلط بين الكفاح الفلسطيني من أجل الحقوق، وآيديولوجيا «حماس» المتطرفة، في وقت كان العالم فيه منغمساً في فوبيا الإسلام السياسي العنيف، واليوم عملية «طوفان الأقصى»؛ صحيح أنها هزَّت الجبروت الإسرائيلي، لكن أهدافها تبقى غير واضحة: تحرير الأرض، أم تجييرها لتحسين موقع «حماس» على حساب السلطة الفلسطينية المترهلة، أم خدمة أجندات إقليمية تسعى إلى وقف التطبيع «العربي- الإسرائيلي»؟

العامل «الإقليمي- الدولي» هو المتغيرات في عدد من دول المنطقة الرئيسية، والتي بحكم التهديدات الإقليمية وسياسات القوى الدولية الملتبسة، باتت تعطي الأولوية للمصالح الوطنية، والتحديث، والاتجاه لتجفيف النزاعات، وإحداث توازن في علاقاتها الدولية. كل ذلك، جعل لافتة «النزاع (العربي- الإسرائيلي)» تترنح، وتتحول إلى «نزاع (فلسطيني- إسرائيلي».

لعب مشروع إيران التوسعي، و«شبه تأميمها» للقضية الفلسطينية دوراً محورياً في هذا التغيير، إضافة لخطايا واشنطن في إدارة ظهرها لحلفائها التقليديين بالمنطقة.

تكمن القناعة لدى إيران وحلفائها بأن إسرائيل باتت ضعيفة بعد الخلافات الداخلية العميقة، وضرورة اقتناص هذه الفرصة لتقويض الكيان الإسرائيلي تدريجياً بهدف اقتلاعه، وفي ذلك سوء تقدير لقدرة إسرائيل التدميرية الهائلة، والدعم الدولي الذي تحظى به، بما في ذلك كل من الصين وروسيا. كل المكاسب التي تدعي إيران أنها حققتها في المنطقة تحولت إلى عبء؛ دول مفككة تنخرها نزاعات داخلية، ومع جيرانها، إضافة إلى أوضاع اقتصادية واجتماعية مزرية.

دور إيران في المنطقة بات مشبعاً ودون أفق، ولم يعد أمامها سوى إعادة الوهج للنزاع «الفلسطيني- الإسرائيلي» لتستعيد وحلفاؤها بريقهم بعد تهاوي شعبيتهم. وقد يكون وراء الأكمة أيضاً تشتيت القوة الأميركية؛ لتخفيف دورها في الخليج العربي وفي دعم أوكرانيا.

لا يُختصر العامل الإسرائيلي بوصول اليمين المتطرف إلى الحكم، وتسعيره العنف ضد الفلسطينيين، بل أيضاً بالشرخ السياسي والاجتماعي الذي ظهَّرته الخلافات الداخلية والاحتجاجات غير المسبوقة، طالت انعكاساته الأجهزة العسكرية والأمنية، وأعطى انطباعاً بضعف إسرائيل. إلى هذا، وقعت تل أبيب في خطأين: سياسي، ومخابراتي، جسيمين: السياسي هو الركون إلى تفاهمات مع «حماس» بشأن التهدئة في غزة، في استمرار للخطيئة الأصلية لدى الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة، بصوابية ديمومة التفاهم مع قوى الإسلام السياسي، مثل «حماس» و«الجهاد الإسلامي»، في تجاهل لبُعدها الآيديولوجي المؤمن بأنه لا حق لإسرائيل في الوجود، وأنه لا يوجد مدنيون إسرائيليون، وكل مواطن إسرائيلي هو جندي وهدف مشروع. إسرائيل تسامحت مع نشأة حركة «حماس» على حساب القوى العلمانية والمعتدلة، معتقدة أنها تضعف بذلك منظمة «التحرير»، و«فتح» وتقسّم الفلسطينيين، فعقدت حكوماتها صفقات معها، بهدف حفظ الاستقرار في القطاع. الخطأ الفج كان الفشل المخابراتي الهائل، والناتج عن الخطأ الأول الذي مكَّن «حماس» من عنصر المفاجأة في هجومها.

ماذا بعد «طوفان الأقصى»، ورد الفعل الإسرائيلي عليه؟ الناتج الأكيد الوحيد هو الموت، والدمار، والتشريد في القطاع، ولن تحصد فلسطين وقضيتها ثماراً، ولن تجني إسرائيل بدورها أكثر من محاولة استعادة هيبتها، ومعاقبة «حماس»، مع تكلفة باهظة سيقع ضحيتها المدنيون؛ لا سيما الفلسطينيون. وبالقدر الذي يتعذر معه قبول «حماس» ممثلاً شرعياً للشعب الفلسطيني؛ بسبب آيديولوجيتها المتشددة، يتعذر على إسرائيل الإمعان في سياسة التشدد والعنصرية والعنف تجاه الفلسطينيين، وتبقى حكومة الوحدة الوطنية من دون المتشددين أفضل فرصة أمامها للخروج من هذه الحرب، والإقلاع عن التحجج بغياب الشريك الفلسطيني الصالح للتسوية والحل.

لا مخارج ناجعة سوى الحل السياسي الجذري، والاعتراف بحقوق الشعب الفلسطيني، والتي تبقى متاحة بعد هذه الحرب، وملامحها متوفرة في واشنطن، وبعض الدول العربية النافذة، وعلى رأسها السعودية ومصر والأردن؛ لانتشال السلطة الفلسطينية و«منظمة التحرير» من كبوتهما، والشروع في مفاوضات سلام برعاية «أميركية- عربية» لتحقيق حل الدولتين، على ضوء الوقائع الجديدة لدى الجانبين. وحدها التسوية قادرة على سحب ورقة فلسطين من يد إيران وحلفائها، ووضعها بيد الاعتدال الفلسطيني، الذي يقبل بوجود إسرائيل، وحل الدولتين المجمع عليه من دول العالم كافة. الأمر بيد واشنطن، لتستنسخ من هذه الحرب -المأساة- نتائج حرب 6 أكتوبر 1973.