ما يستطيع الدبلوماسي أن يقوله فلا تقوم الدنيا

منذ 8 أشهر 104

لا فارق بين البابا فرنسيس الأول، بابا الفاتيكان، وهو ينصح أوكرانيا بالتفاوض مع روسيا، وبين هنري كيسنجر، وزير الخارجية الأميركي الأشهر، وهو يفعل الشيء نفسه، إلا في اللغة وفي القدرة على استخدام الألفاظ البديلة.

ومع ذلك، فلقد قامت الدنيا على البابا، وهاجمه بقوة دميترو كوليبا، وزير الخارجية الأوكراني، ولم يحدث شيء من هذا مع كيسنجر، رغم أن المعنى الذي قال به الرجلان في مقام إسداء النصح للعاصمة كييف هو معنى واحد تقريباً.

ويبدو أن حالهما كحال العقاد وطه حسين في زمانهما؛ لأن العقاد اشتهر بحدة العبارة وقوتها، وبالذهاب إلى المعنى المراد مباشرة، دون تزيين ولا تجميل، فلم يكن التزيين يهمه في شيء، ولا كان التجميل يشغله. ولكن طه حسين كان يلف ويدور ليقول المعنى ذاته، وكان يلعب بالكلمات ويتلاعب، وكان ماهراً بارعاً في هذا كله؛ بل وكان ممتعاً للقارئ، وربما كانت متعة القراءة له تُنسي القراء حقيقة ما يتكلم عنه معهم، وما يأخذهم إليه من أفكار!

وكان أنيس منصور يعرف الاثنين معاً، وكان يدبر لهما بعضاً من مقالبه خفيفة الدم التي كان يمارسها مع أصدقائه ومعارفه، وكان يردد دائماً أن طه حسين قال، في أحاديثه وكتاباته، ما لو قاله العقاد بلغته لاستحل الناس دمه!

شيء من هذا تجده إذا ما عقدت مقارنة بين ما صدر عن كيسنجر عندما كان ضيفاً على منتدى دافوس الاقتصادي، في يناير (كانون الثاني) من السنة الماضية، وبين ما صدر عن البابا وهو يتحدث إلى قناة «آر تي سي» السويسرية عن الشأن ذاته بين الأوكرانيين والروس.

كان كيسنجر وقتها على مشارف المائة من العمر، وكان بينه وبين هذه السن رمية حجر، وكان قد ذهب إلى المنتدى الاقتصادي العالمي متوكئاً على عصاه، وحين استقر في مقعده قال ما معناه أنه لا سبيل إلى الحل على الجبهة الروسية الأوكرانية إلا بالتفاوض، وإلا بالالتقاء عند نقطة في الوسط بين الطرفين، وإلا بتنازل في حدود للرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وإلا بأن يؤمن الطرفان بأن الحرب ليست حلاً ولن تكون بينهما ولا بين سواهما.

وقتها تداول الإعلام حول العالم ما قاله عجوز السياسة الأميركية الراحل، وحظي كلامه بموافقة هنا وباعتراض هناك، أو بما يشبه الموافقة والاعتراض، ثم سرعان ما جاء الجديد في الإعلام ليغطي على ما جرى تداوله وكأن شيئاً لم يكن، ومن بعدها مضى قطار الحرب في سبيله يدوس كل ما يعترضه، فكان أن دخلت الحرب عامها الثالث في الرابع والعشرين من الشهر الماضي.

وعندما تحدث البابا إلى القناة التلفزيونية السويسرية، لم يختلف كثيراً عما قال به كيسنجر في حينه، وربما كان وجه الاختلاف البسيط أن بابا الفاتيكان دعا إلى التفاوض «قبل أن تتفاقم الأمور»، وأنه استخدم عبارة «الراية البيضاء» وهو يتكلم، وبكل ما في هذه العبارة من الإيحاءات السلبية التي آذت الطرف الأوكراني نفسياً بالضرورة.

ذلك أن الذهاب إلى تفاوض بين أي طرفين لا يعني أبداً هزيمة طرف دون طرف، وإنما يعني أن القوة لم تحل ما بينهما من مشكلات في الحاضر، ولن تحلها في المستقبل بناءً على ما يقول به هذا الحاضر نفسه، وأن طاولة التفاوض هي الحل، وأن كل طرف مدعو إلى أن يضع عليها مخاوفه وهواجسه، وأنهما ببعض من المرونة يمكنهما التوصل إلى ما يغنيهما عن القتل، وعن القتال، وعن نزيف الخسائر الذي لا يتوقف على الجبهتين.

الطريف أن الوسيلة التي حملت كلام البابا والوزير الأميركي كانت سويسرية في الحالتين، فكانت قناة تلفزيونية مرة، وكانت منتدى عالمياً مرة ثانية، ورغم أنها كانت ذات جنسية واحدة، فإن المسافة بين رد الفعل في المرة الأولى وبينه في المرة الثانية مسافة واسعة.

ولأن البابا رجل دين، فرجال الدين في مثل حالته لا يدورون ولا يلفون ليقولوا ما يتعين عليهم أن يقولوه، وإنما يصارحون الناس بما يجب عليهم أن يسمعوه، وهذا ما جعل كلامه ثقيلاً على الأوكرانيين، وجعلهم يردون عليه بكثير من الانفعال، ثم جعلهم يدعون البابا إلى ألا يكرر الفاتيكان أخطاء الماضي، في إشارة إلى موقفه في زمن الحرب العالمية الثانية.

إن عبارة «الراية البيضاء» لا تعني إلا الاستسلام لدى الناس بمختلف ثقافاتهم، وقد لا تعني ذلك في عُرف البابا، ولكن الفيصل يظل فيما تعنيه العبارة لدى السامع الذي يتصرف على أساس فهمه لها، لا على أساس ما قد تعنيه لدى قائلها.

ورغم أن وضع أوكرانيا على الجبهة ليس على ما يرام في الفترة الأخيرة، ورغم أن الحرب طالت فدخلت السنة الثالثة من عُمرها، فإن إرادة الأوكرانيين لا تزال قوية، ولا يزال الرئيس الأوكراني يتصرف كأنه منتصر، ولا يتصور -ولا للحظة- أن يفرط في شيء مما قضمه بوتين من الأراضي الأوكرانية. وتستطيع أن تلمح ذلك وأن تراه في كل سطر ردَّت به كييف على نصيحة البابا، وكذلك فيما بين السطور من المعاني والإيماءات التي تُلمِّح ولا تصرِّح.

والحكمة السياسية تقول إن التفاوض لا يعني الإقرار بالهزيمة، ولا حتى يعني الاستسلام. وعندما ذهبت القاهرة إلى التفاوض مع تل أبيب بعد حرب 1973 لم تكن منهزمة ولا كانت مستسلمة، ولكنها كانت تؤمن بأن في استطاعتها أن تستكمل بالسياسة ما حصلت على جانب منه بالحرب، وهذا هو ربما المعنى الذي قد يغيب عن العاصمة كييف.