قبل انتفاضة فبراير (شباط) 2011، جرتْ الأمورُ في ليبيا على نسق واحد معلوم للجميع، وتحديداً منذ نهاية صيف عام 1975، وهو التاريخ الذي يُعلّم لسيطرة العقيد معمر القذافي على مقاليد السلطة، بعد نجاحه في إحباط المحاولة الانقلابية ضده، التي قادها المرحوم الرائد عمر المحيشي، وتمكنه من التخلص من كل منافسيه في مجلس قيادة الثورة.
النسقُ الواحدُ لا يعني الإيقاع الواحد. إيقاع السير نحو الهدف المرسوم، كان يتغير في السرعة والعلو، ويقرره العقيد القذافي بنفسه، حسب الظروف داخلياً وخارجياً. إلا أن النسق والإيقاع اشتركا في أنهما كانا يسيران، وفق خطة مرسومة، في خط واحد، واتجاه واحد لا يتغير، يفضي إلى تشديد قبضته على السلطة، وترسيخ سلطانه.
ما يميّز تلك الحقبة الطويلة نسبياً (أربعة عقود وأزيد) هو الحفاظ على أن تكون البلاد خلواً من أي منافس للعقيد القذافي، الأمر الذي دفعه إلى التمادي في استبداده إلى حدّ التوحش، وملاحقة معارضيه حتى في خارج ليبيا. وبلغت تلك الحقبة ذروتها (في شكل بائس ومحزن في آن معاً) بإعلان نفسه ملكاً على ملوك أفريقيا، وتجميعه وإحضاره من تبقى من ملوك القبائل الأفريقية في طائرات خاصة إلى طرابلس، ليتوّجوه ملكاً عليهم، ويقيموا له شعائر وطقوساً بدائية وغريبة، ومدفوعة الأجر مقدماً، في احتفال منقول مباشرة على الهواء تلفزيونياً. ذلك التتويج، كان تجسيداً، مضحكاً ومبكياً في آن، لكل المهازل السياسية التي عاشتها ليبيا تحت حكم العقيد القذافي، والذي كان، في ذات الوقت، حريصاً باستمرار على تذكير الليبيين والعالم، بأنّه مؤسس عصر الجماهير. اللافت للاهتمام، والغريب العجيب حقاً، هو أن المسافة الزمنية الفاصلة بين مهزلة عصر الجماهير ومهزلة عصر ملك ملوك أفريقيا، لا تتجاوز سنوات قليلة!
تلك الحقبةُ الاستبدادية، كانت منخورة بالفساد، من قمة الهرم السياسي إلى أسفله. لكن تدفق أموال صادرات النفط والغاز أتاح لمنظومة الفساد الاستمرار، لأن الأموال كانت بمثابة ستارة وجدت كغطاء خارجي براق، يخفي وراءه انهياراً كاملاً في البني التحتية، في كل القطاعات، وعلى وجه الخصوص في قطاعي التعليم والصحة. وكانت أيضاً محمية بقوة أمنية ضاربة.
وبعد انتفاضة فبراير 2011، اختفى النسق الاستبدادي الواحد، ومحله حلت أنساق عدة برايات عديدة. وأفضى ذلك بدوره إلى اختلاف في الإيقاعات وتميّزها، كونها أضحت في أيادٍ عدة، وبأهداف عدة كذلك. وما يهمُّ، هو أن الأنساق والإيقاعات الجديدة، بطبيعة تعددها وتنافسها، تشعبت في طرق مختلفة، سعياً وراء تحقيق مصالحها. لكنها مثل حبّات الشعير، تدور وتدور، وكلها في الأخير تلتقي في قلب الرحى. أي إن السمة العامة لها، رغم الاختلافات البائنة، تجمعها في هدفين: نهب الثروة، والحفاظ على سلطة الأمر الواقع.
سلطةُ الأمر الواقع تعني سلطة من يملكون السلاح والرجال، في كل أنحاء البلاد، غرباً وشرقاً وجنوباً، تحت مختلف الرايات والتسميات، ومواصلة التصارع بهدف الاستحواذ على أكبر قدر من الثروة والنفوذ. ونظراً لتعذر إمكانية حسم الأمر عسكرياً لصالح طرف واحد، التجأت كافة الأطراف للاستنجاد بقوى أجنبية، لتعزيز مواقعها وقوتها عسكرياً ودبلوماسياً وسياسياً. وهو ما أفضى بالضرورة إلى تحوّل ليبيا إلى ميدان صراع وتنافس بين قوى أجنبية عدة، وبذلك تحوّلت تلك الجماعات المسلحة المحلية إلى وكلاء يحمون مصالح الأجنبي، ويقتتلون نيابة عنه. وفي هذا الخضم، كان من الطبيعي أن يكون قطاع النفط والغاز في المركز من الصراع والتنافس على الثروة والنفوذ. وكان طبيعياً أن يؤدي التنافس على أموال تصدير النفط، إلى خلق سوق سوداء موازية لتصديره، تقودها عصابات دولية متخصصة بالتعاون والتنسيق مع الجماعات المسيطرة على موانئ التصدير. ولتلك العصابات خبرة موثقة في تجارة تهريب الأسلحة. وبالتالي، فإن ما يهرّب من شحنات نفط يكون مقابله شحنات أسلحة مهرّبة. ويتم التبادل علناً في عرض البحر، أمام أعين قادة وضباط وأفراد عملية «إيريني» العسكرية البحرية، المكلفة من الاتحاد الأوروبي، بوقف عمليات تهريب المحظورات والأسلحة لليبيا منذ عام 2020.
ما يحدثُ في ليبيا هذه السنوات، ربما يتّسق، في بعض جوانبه، مع تعرجات تضاريس تاريخها السياسي المعاصر، منذ وصول الاستعمار الإيطالي في عام 1911، لكنّه، في ذات الوقت، لا يتّسق مع المنطق ويصعب استيعابه. وهو حالياً واقع قائم فعلياً، ليس ممكناً تجاهله، وليس خافياً على أحد، وفي مقدمتهم الأمين العام للأمم المتحدة ومن يرسل إلى ليبيا من مبعوثين. والأهمُّ، أنه يعمل وفق آلية أضحت معروفة، ومتفقاً عليها ضمنياً، بين مختلف القوى المتصارعة، محلياً ودولياً.