ما إن لاحت في الأفق ملامح حل سياسي للأزمة السودانية، وفق خريطة طريق جدول زمني حدد مواقيت توقيع الإعلان السياسي النهائي في الأول من أبريل (نيسان) المقبل، يعقبه التوقيع على الدستور الانتقالي، ثم أخيراً تشكيل الحكومة المدنية في الـ11 من الشهر ذاته، لكن قبل أن تنضج رؤية الحل، احتدم الصراع مجدداً وارتفعت وتيرة الملاسنات الكلامية والتصعيد من القوى المناهضة للحل المنتظر، فما احتمالات صمود الحل السياسي النهائي أمام حملات إسقاطه من قبل معارضيه؟ وهل يتبدد حلم الحل مرة أخرى وتعود الأزمة إلى المربع الأول من جديد؟
تقدم ملموس
ضمن مراحل التقدم المطرد باتجاه الحل النهائي للسودان، انطلقت الخميس 23 مارس (آذار) الجاري، أعمال لجنة صياغة الاتفاق النهائي بالقصر الجمهوري، التي تضم 11 عضواً من ممثلي أطراف "الاتفاق الإطاري" وممثلين عن الجيش وقوات الدعم السريع.
وأكدت اللجنة في أول اجتماعاتها أن مرجعيات صياغة الاتفاق النهائي هي "الاتفاق السياسي الإطاري"، ومشروع الإعلان السياسي الذي تمت مناقشته مع القوى غير الموقعة، وتوصيات ورش ومؤتمرات العملية السياسية الأربع التي انعقدت حتى الآن، ومسودة الدستور الانتقالي المعدة بواسطة اللجنة التسييرية لنقابة المحامين التي ناقشتها الأطراف لاحقاً وبنت عليها "الاتفاق السياسي الإطاري".
وقررت لجنة صياغة الاتفاق النهائي، بحسب خالد يوسف المتحدث باسم العملية السياسية، أن تكون في حال انعقاد دائم بجلستين يومياً نهارية ومسائية، بعد أن وضعت مقترح مسودة قضيتي تنفيذ "اتفاق جوبا لسلام السودان" و"استكمال السلام والعدالة، والعدالة الانتقالية" وفقاً لما جاء في توصيات المؤتمرين.
واستعرض اجتماع اللجنة الأول الهيكل العام لمسودة الاتفاق السياسي النهائي، متضمنة أبواب "الاتفاق الإطاري" نفسها مع التوسع في الشرح وإضافة ديباجة وباب للأحكام الختامية، إلى جانب إضافة خمسة بروتوكولات ملحقة، تتناول القضايا الخمس استناداً إلى ما جاء في توصيات ورش ومؤتمرات المرحلة النهائية للعملية السياسية.
وأكد المتحدث باسم العملية السياسية، حرص اللجنة على الفراغ من صياغة المسودة الكاملة للاتفاق خلال أيام معدودة، توطئة لرفعها للآلية السياسية المشتركة التي تضم جميع الأطراف بهدف مناقشتها وإجازتها للوصول إلى توقيع الاتفاق السياسي النهائي وفقاً للجداول الزمنية المتفق عليها.
الكتلة تتوعد
في المقابل توعدت "الكتلة الديمقراطية" المناوئة للاتفاق الإطاري بالتعبئة والخروج لرفض الاتفاق النهائي ومناهضة أية حكومة تنتج منه، والسعي إلى تأسيس جبهة عريضة مع الحلفاء وكل قوى الثورة الرافضة لمقاومة الحكومة المدنية المتوقعة.
واتهم القيادي في ائتلاف "الكتلة الديمقراطية" مبارك اردول، قوى إعلان الحرية والتغيير بالسعي إلى الهيمنة على المشهد السياسي، وضم بعض أطراف الكتلة الديمقراطية إلى العملية السياسية دون الآخرين بدعوى أنهم أذرع للجيش، بهدف السيطرة على عملية الانتقال والتحكم في القرار واختيار مؤسسات الدولة المقبلة.
في المنحى ذاته حذر الأمين العام لمبادرة "نداء أهل السودان للوفاق الوطني" هاشم الشيخ الطيب، من خطر "التهديد الحقيقي الذي تمثله هذه العملية السياسية الحالية على البلاد ومستقبلها".
ودعا الطيب "فئات الشعب السوداني كافة إلى الرفض واليقظة التامة تجاه هذه التطورات السياسية الجارية، كما نؤكد أننا نرغب حقاً في رؤية عملية سياسية حقيقية شاملة تقود نحو الاستقرار وتمنح المرحلة الانتقالية البداية الصحيحة ولا تكرر أخطاء المرحلة الانتقالية".
غضب مناوي وجبريل
وكان كل من جبريل إبراهيم رئيس "حركة العدل والمساواة" ومني أركو مناوي رئيس "حركة جيش تحرير السودان"، هاجما رئيس بعثة الأمم المتحدة "يونيتامس" فولكر بيرتس، على ما جاء في إحاطته الأخيرة إمام مجلس الأمن يوم الإثنين 20 مارس (آذار) الجاري، بشأن موقفهما من الاتفاق الإطاري، أشار فيها إلى خلافاتهما مع قوى الاتفاق حول السلطة، واتهماه بتزوير الحقائق والسعي إلى فرض حكومة على السودانيين.
وقال جبريل إبراهيم، في تغريدة على حسابه في "تويتر"، رداً على فولكر، "نحن ثوار أحرار لمن لا يعرفنا، ولا يشرفنا أبداً أن نكون ضمن طاقم حكومة يصنعها الأجانب ويفرضونها على الشعب السوداني"، متسائلاً "هل سبق لي أو الأخ مناوي أن طلبنا يوماً من رئيس يونيتامس أن يضمن لنا موقعاً في حكومته التي يريد تشكيلها على رغم أنف الغالبية العظمى من الشعب السوداني".
وغرد مناوي على حسابه غاضباً، متهماً الإحاطة بـ"التغبيش وتزوير الحقائق والقدح المتعمد في مواقفهم النضالية"، مديناً ما وصفه بـ"السلوك الجارح وتزييف الحقائق أمام المجتمع الدولي".
وكانت رئيس بعثة الأمم المتحدة في السودان قال إن "خلافات الأطراف الفاعلة مع موقعي الاتفاق الإطاري، حركتي تحرير السودان والعدل والمساواة، ليست حول هياكل الانتقال بل في ضمان وضعهم وتمثيلهم الخاص فيها".
تحصين الاتفاق
في السياق وصف الباحث في المجال الأمني إسماعيل مجذوب، خطاب قائد الجيش عبدالفتاح البرهان الأخير في منطقة أم سيالة بشمال كردفان بأنه "كان أشبه بخطاب الوداع بخاصة بعدما أوشكت الترتيبات والتحضيرات للاتفاق النهائي على الانتهاء عبر اللجنة المشتركة بين القوات المسلحة وقوى الاتفاق الإطاري".
ونوه مجذوب إلى أن "الاتفاق الأخير يبدو محصناً ويتمتع برعاية دولية وإقليمية ستعجل معارضة أي نكوص من أي طرف، معرقلاً وعدواً للمجتمع الدولي بما في ذلك مجلس الأمن الدولي والأمم المتحدة والمنظمات الإقليمية الأخرى الراعية للعملية". وأضاف أن "خطاب البرهان تأثر بالأجواء الاحتفالية وهو وموجه إلى القاعدة العسكرية أكثر منه إلى الساحة السياسية، إذ إن ما تم الاتفاق عليه في الاجتماع الموسع بين أطراف الاتفاق الإطاري والآلية الثلاثية والوساطة الرباعية سيكون هو الفيصل للمضي قدماً في استكمال التحول الديمقراطي للعملية السياسية وإيصالها إلى نهايتها وفق الجداول المعلنة".
وحذر مجذوب من أن "البلاد لم تعد تحتمل أية مغامرات أو مناورات جديدة، لأن أية قفزة أخرى في الظلام من أي طرف أو حزب سياسي أو جهة نظامية بغرض تحقيق مكاسب ذاتية، ستدفع بالوضع في البلاد إلى غياهب الانهيار الكامل، بعد بلوغها بالفعل مرحلة اللادولة والتدهور الاقتصادي والأمني والمعيشي الكبير الذي يكابده الناس انتظاراً لتشكيل حكومة مدنية تنتشل البلاد من وهدتها وتعيد للشعب حقوقه وتمتعه بموارد بلاده".
تحديات ومهددات
إلى ذلك اعتبر أستاذ العلوم السياسية عبدالمحسن عبدالعظيم تصريحات البرهان في منطقة أم سيالة بولاية شمال كردفان "التي حذر فيها من فشل وتعثر الاتفاق الإطاري بحال لم يشمل قوى سياسية رئيسة، بأنه كان أشبه بإشارة الضوء الأخضر التي تحرك على إثرها كل المعارضين ليرفعوا وتيرة التصعيد والتعنت وبخاصة من قيادات الكتلة الديمقراطية".
ولفت عبدالعظيم إلى أن "تطوير الاتفاق الإطاري إلى اتفاق نهائي لا يزال يواجه تحديات ومهددات عدة ممثلة في الاختلافات والتحفظات القائمة بين عديد من قوى الثورة من جهة، وفجوة الثقة التي ما زالت ظلالها ماثلة مع الطرف العسكري من الجهة الأخرى".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
توسيع المشاركة في العملية السياسية
ووصف أستاذ العلوم السياسية "تهديدات الكتلة الديمقراطية المقاطعة للاتفاق بأنها قد تؤثر فعلاً في استقرار الفترة الانتقالية بل قد يكون هناك سعي إلى تقويض الحكومة المدنية بحال تم تشكيلها فعلاً"، منوهاً إلى أن "الوضع من شأنه أن يزداد تعقيداً مع التربص المتزايد من أنصار المؤتمر الوطني المنحل واستغلالهم الأوضاع بالظهور إلى العلن هذه الأيام كثورة مضادة، مما سيثقل خطوات أية حكومة مدنية يفرزها الاتفاق الإطاري، ومهما كان السند الدولي والإقليمي الذي قد تحظى به لكنها ستكون مزعزعة على المستوى الداخلي".
تصعيد والتزامات
واعتبر عبدالعظيم أن "التصعيد الذي تقوده قوى محسوبة على النظام البائد ضد الاتفاق قد يبدو مفهوم الدوافع والغايات في إطار وقوفهم المبدئي والكلي ضد الثورة، لكن هناك قوى لا يستطيع أحد أن يقدح في موالاتها للثورة وكانت حتى الأمس القريب جزءاً لا يتجزأ من الحرية والتغيير - المجلس المركزي، تستدعي الوقوف عندها، إلى جانب أن وجود كل الحركات الموقعة على اتفاق السلام يبدو ضرورياً لاستكمال أحد أبرز شعارات الثورة في السلام".
ولفت المتحدث ذاته إلى أن "توقيع الاتفاق النهائي في ظل الانقسام السياسي الحاد سيعزز وجهة نظر العسكريين بعدم استقرار الفترة الانتقالية وربما يمنحهم المبرر لتكرار انقلاب 25 أكتوبر (تشرين الأول) 2021 مرة أخرى تحت الذرائع نفسها، لكنه ربما يقود هذه المرة إلى تصعيد أكثر عنفاً وقدرة على العصف بالاستقرار الأمني للبلاد".
وخلص اجتماع تحضيري عقدته الآلية الثلاثية التي تضم الاتحاد الأفريقي ومنظمة "إيغاد" والأمم المتحدة، مع الموقعين على "الاتفاق الإطاري" العسكريين والمدنيين في القصر الجمهوري في 19 مارس الحالي، إلى اتفاق على خريطة طريق وجدول زمني لصياغة الاتفاق السياسي النهائي والدستور الانتقالي على أساس الاتفاق الإطاري ومسودة الإعلان السياسي ومسودة دستور نقابة المحامين السودانيين والتعليقات عليها، إضافة إلى توصيات ورش العمل بشأن القضايا الخمس حول تفكيك نظام 30 يونيو واتفاق جوبا للسلام ومسألة شرق السودان والعدالة الانتقالية وإصلاح القطاع الأمني".
والتزمت الأطراف بإتمام اتفاق سياسي نهائي بحلول الأول من أبريل (نيسان) المقبل، وأهمية دمج النساء ومشاركتهن الفعالة في هذه العملية وفي المؤسسات الحكومية المستقبلية.
واتفقت الأطراف على تشكيل لجان للانتهاء من صياغة اتفاق سياسي نهائي واستكمال مسودة دستور انتقالي مع أصحاب المصلحة المعنيين كافة، واستمرار التواصل مع الأطراف غير الموقعة وتشجيعها على الانضمام إلى جهود التوصل إلى اتفاق سياسي نهائي.
وأعربت الآلية الثلاثية في بيان عن أملها "في أن يتوصل السودانيون والسودانيات خلال الأيام المقبلة، ومع بداية شهر رمضان المبارك إلى اتفاق نهائي حول الحلول لتمهيد الطريق أمام تشكيل حكومة بقيادة مدنية وإخراج السودان من خضم أزمته الحالية".
وشكل توقيع الاتفاق السياسي الإطاري في الخامس من ديسمبر (كانون الأول) الماضي اختراقاً كبيراً بعد جمود طويل في العلمية السياسية منذ انقلاب 25 أكتوبر 2021، على أمل أن يفتح الطريق أمام استعادة مسار التحول المدني الديمقراطي في السودان.