دخل السوريون الطور الأخير من الاستعداد لفصل الشتاء، فمؤونة الطعام التي بدأ العمل بها منذ بداية سبتمبر (أيلول) أصبحت اليوم في مراحلها الأخيرة.
وفي ظل عالم أصبح يعتمد على كل ما هو صناعي ومستهلك من المواد الصناعية المخزنة والمجمدة أو المضاف إليها المواد الحافظة والمعدة مسبقاً للاستهلاك، لا يزال السوريون يلجأون إلى خيرات الأرض ليصنعوا منها مؤونة يخزنونها لعام كامل وبخاصة لفصل الشتاء، فالمعلبات والطعام الجاهز لا يستطيع أن يأخذ مكان صنع أيديهم، وما لا تزال القرى والبلدات حتى اليوم تعج بأحاديث نسوتها ورجالها عن مؤونتهم ونوعيتها وسعرها وكميتها وغيرها من الأخبار التي يستمر تداولها مدة لا تقل عن ستة أشهر في السنة.
وعلى رغم ارتفاع أسعار المواد الأولية للمؤونة سنة بعد أخرى، فإن هذا الطقس السنوي لا يمر مرور الكرام، وتتحضر له كل أسرة بمحاولة تأمين مبلغ من المال لا يمس إلا لهذا الغرض، فتأمين ما يسمى بـ "الإيدام أو الحواضر"، وهي مجموعة من الأصناف تقدم على وجبة الإفطار بشكل رئيس، واجب سنوي ونمط حياة موروث.
خيرات الأرض أولاً
لم يفوت عبدالرحمن يوم جمعة من أغسطس (آب) إلا وذهب فيه إلى قريته في ريف طرطوس، فخيرات التين والعنب أهم من أن يتم تجاهلها وتركها تذبل، حتى لو اضطر إلى شراء وقود بسعر مرتفع لسيارته، ولكثرة حبه لأرضه وخيراتها استطاع شراء سيارة قديمة توفر له وقوداً بسعر مدعوم "لقد حظيت بسيارة ولم أدفع فيها سوى مبلغ مناصفة بيني وبين صديقي، وبذلك أستفيد من وقودها للسيارة الأخرى وأذهب إلى بستاني في القرية وآتي بالخيرات التي تنعم بها الأرض علينا".
يعلم عبدالرحمن أن هذه الخيرات هي مؤنته لفصل الشتاء، إذ يجففون العنب ليصبح زبيباً وقد يصنع منه دبس العنب، وكذلك التين يجفف ويعرض لأشعة الشمس أياماً عدة، وبعد أن يجف تصنع منه النسوة مربى التين وبعضهن الآخر يقمن بطهيه فقط على البخار من دون سكر ويضفن إليه الجوز ويلف ويوضع في الثلاجة للشتاء.
بديل الليمون
وفي هذا الوقت كانت علياء في ريف حمص الغربي اتخذت القرار بقطف "السماق" ووضعه على سطح المنزل أياماً عدة لينضج أكثر ويزداد احمراره، وعلى رغم أنها كانت تستطيع تركه في الأرض لينضج في بيئته فإنها آثرت قطفه.
وتعزو ذلك إلى أن "هناك صبية كثر يجوبون الأراضي ويأخذون منها كل ما يجدوه أمامهم"، وعلى رغم أنها لا تمانع أن تعطي من خيرات أرضها للآخرين إلا أن هؤلاء لم يتركوا لها خياراً، "أحب أن أعطي الآخرين من أرضي أو أن أترك جزءاً لكي يستفاد منه، لكن هؤلاء الصبية يأخذون بلا حساب لحق الآخرين أو حاجتهم".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وبعد أن تنضج حبوب السماق وتصبح حمراء وحامضة تعمل علياء بمساعدة إحدى بناتها على وضعه في كيس خشن وضربه بعصاة بهدف فصل قشرته الخارجية عن البذرة الداخلية، ثم تنخله بواسطة المنخل، وهو أداة ذات ثقوب ضيقة لنخل الدقيق، كما يستخدم لمواد أخرى وبأحجام مختلفة، إذ تحصل من خلاله على ما تريده السيدة من المادة التي تقوم بنخلها.
ومرة أخرى تعود عليا لوضعه في الشمس لأيام إضافية عدة، ثم تطحنه وتستخدمه في صنع الزعتر الذي يقدم على الفطور، كما يستخدم في السلطات وبخاصة الفتوش وأحياناً كبديل لليمون عند انتهاء موسمه.
الأكلة الشعبية في كل بيت
أما المؤونة التي لا يخلو بيت سوري منها فهي الأكلة الشعبية "المكدوس" التي ذاع صيتها في كل مكان حل فيه السوريون، إذ لم يدخل شهر أكتوبر (تشرين الأول) إلا وقد كان هناك مهرجان غير معلن يشارك فيه معظم أبناء هذه البلاد في صنع المكدوس.
وهذه الأكلة الشعبية تتكون من باذنجان بحجم صغير يسلق ثم يشقق ويوضع في مكبس ليجف منه الماء مدة يومين تقريباً، ثم تعد له ما تعرف بالحشوة وهي مكونة من فليفلة حمراء كذلك مجففة ومقطعة لقطع ناعمة مع الثوم والجوز البلدي أو أي مكسرات أخرى، وبعد حشيه يصف في علبة أو ما يعرف بالـ "قطرميز" ويضاف إليه الزيت.
وعن الكمية من هذا الطعام المحبوب تقول حنان "لا أستطيع أن أصنع أقل من 100 كيلو من الباذنجان، فأنا أرسل منها لإبني في ألمانيا، وربما أحتاج إلى صنع مزيد منها، كما أن هناك عوائل تصنع كمية مضاعفة أو أكثر، كل بحسب قدرته المادية واستهلاكه له".
سيد المؤونة
والزيتون سيد المؤونة الذي لا يزال السوريون يقطفونه إلى الآن، إذ يتأخر كثير منهم في قطفه حتى هذا الوقت، ويعزو أبو رضوان هذه العادة إلى انتظار المطر، "نحن ننتظر هذا الوقت لكي يكون الزيتون ارتوى بماء المطر، فتمتلأ حبته ويذهب عنها اليباس ويعطيه شكلاً أجمل وزيتا أكثر".
ولوحظ هذه السنة استعانة معظم من لديهم أراض فيها زيتون ببعض المجموعات التي تعمل على المساعدة في القطاف في مقابل أجر مادي معين للشخص في اليوم، أو من خلال إعطائهم جزءاً من المحصول.
وبعد عملية القطاف تبدأ العملية الأصعب وهي تنقية الزيتون من الأوراق والشوائب التي تجمعت أثناء قطافه أو جمعه من الأرض، وبعدها يؤخذ منه قسم للأكل فينقع بالماء لأيام عدة ليتخلص من الطعم المر الذي يرافقه، ثم يملح ويضاف إليه الليمون وبعض الفليفلة الخضراء ويؤكل بعد فترة.
أما ما تبقى وهو الكمية الكبرى، فيؤخذ إلى أقرب معصرة ليؤخذ منه الزيت. وكان أبو رضوان فرحاً بنتاجه هذا العام، فقد استطاع الحصول على كمية زيت جيدة، يقول "قطع معي كل 2.5 كيلو زيتون كيلواً من الزيت، وهذه بركة، ولقد استطعت تأمين مؤونة بيتي من الزيت هذه السنة عكس السنة الماضية"، لذلك قرر عصر بعض من الزيتون على البارد، وهي عادة قديمة بخاصة في اللاذقية، إذ يسمى هذا النوع من الزيت "الخريج" ويعتبر أكثر زيت ثقيل مفيد في العالم.
مؤونة إضافية وطرق حفظ جديدة
عادة ما يخزن السوريون الملوخية والفول والبازلاء وغيرها من الخضراوات أو الحبوب التي يستطيعون استخدامها في الشتاء وطوال العام، إضافة إلى أوراق النباتات المفيدة التي يستخدموها لما يعرف بالزهورات أو المشروبات الساخنة التي تقدم في الشتاء وتقي من البرد والنزلات البردية للجسم. ومنذ بداية الحرب قلص معظم السوريين مؤنتهم لانقطاع الكهرباء مدة طويلة، مما أثر في المؤونة التي تحتاج إلى برادات واضطروا إلى التخلص منها لإصابتها بالعفن.
وقد ابتكرت حلول جديدة، إذ يكبس ورق العنب بعبوات من الزجاج أو يحفظ بالماء والملح، وعلى رغم أن هذه الطرق معرضة للتلف أو العفن في حال تعرضها للهواء من طريق الخطأ إلا أنها تحفظ المادة.
ويشار إلى أن صناعة المؤونة دخلت في مجال الأعمال التي تقوم بها بعض النسوة والعائلات في المنزل وتبيعها كغيرها من المنتجات، وقد لاقت رواجاً لاستطاعتها الوصول إلى من لا يصنعون مؤونتهم أو إلى أولئك الذين يسكنون المدن ويرغبون في تناول طعام مصنوع في بيئته الأصلية.