ليبيا ما بعد الفيضان

منذ 1 سنة 232

طوفان درنة اقتحم التاريخ، ووضع بصماته العميقة على ليبيا، شعباً ودولة، صفحات التجارب عبر الأزمنة، شاهدة على منعطفات حادة واجهت بلاد عمر المختار، تعقيدات وتشابكات الأحداث، لم تأتِ بما تشتهيه السفينة الليبية، فالأنواء والعواصف تضربها بقسوة من مرحلة إلى أخرى، كأن قدر الجغرافيا والتاريخ، يلازم هذا الشعب منذ فجر التاريخ.

فمن نكد الأرقام أن يتزامن هذا الإعصار الكارثي مع يوم الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) على الأراضي الأميركية، ذلك اليوم الذي ترتب عليه تغيير وجه التاريخ، فضلاً عن تزامنه مع أحداث أيلول الأسود في الأردن وفلسطين، كأن هناك ناظماً سبتمبرياً يسجل تاريخ الكوارث التي تصنع التحولات في الأمم والشعوب.

تأملت سياق الأجواء التي فرضها الإعصار، من دون أن أفصله عن محطات صعبة مرت بها ليبيا، تذكرت هذه البلاد الشاسعة، الغنية بمواردها الطبيعية، وقد وصفها المؤرخون القدامى، بأنها كانت قبل آلاف السنين «جنة خضراء»، بينما لاحقها غضب الطبيعية، فحوّلها صحراء جرداء عاني سكانها الجفاف والتصحر والهجرة المؤقتة في بعض الأوقات، ومع ذلك صمد الشعب الليبي، طوال آلاف السنين، وهكذا ظلت ليبيا تواجه أخطار الطبيعة، ما إن تنجو من تمرد الطبيعة، حتى تجد نفسها في حروب جديدة مع البشر، فقد تعاقب عليها الإغريق، والرومان، والعثمانيون، والإيطاليون، وصولاً إلى أحداث 17 فبراير (شباط) عام 2011، التي دمّر فيها حلف «الناتو»، البنية التحتية للدولة الليبية، وترك انقساماً عميقاً بين النخبة السياسية، لا يزال الشعب يدفع ثمنه إلى الآن، فخلال عقد مضى اختلطت الأوراق، سباق محتدم وأطماع شرهة، وعدم يقين في استقرار البلاد، غابت السياسة بغياب الإرادة الوطنية، دب اليأس في نفوس الشعب الليبي، كلما تقدم خطوة نحو الوحدة والاستقرار، وإعادة مؤسسات الدولة، يجد نفسه مشدوداً إلى الوراء، ورهناً لعنوان دائم اسمه «المراحل الانتقالية»، فاض كيل الصبر، باغت «إعصار دانيال»، هذا المشهد بالكامل، لم يستأذن في الدخول، ولم يضع في حسبانه محنة الشعب، ولم يشفع للمختلفين طوال عشر سنوات عند المستقبل، اقتلع الإعصار البنية الأساسية، ومعها تلاشت آمال الحلول السياسية، فالخسائر فادحة، الضحايا والمفقودون بالآلاف، الكارثة إنسانية من دون شك.

فإلى مَن نوجه اللوم؟ هل إلى «إعصار دانيال»؟ أم إلى الخلافات والانقسامات التي حالت دون بناء الدولة، أم من قبل كل ذلك، نلوم حلف «الناتو»، الذي دمّر مقدرات الدولة الليبية بالكامل؟

ربما تتباين وجهات النظر، حول مسيرة المتغيرات والصدمات التي مرّت بها ليبيا، لكن الثابت أن ليبيا دولة وشعباً صارت في مهب الأعاصير والعواصف، لم تعد في حاجة إلى الدواء التقليدي الذي أصابها بأعراض جانبية خطيرة، فهذا الدواء قادها إلى غرفة الإنعاش، لكننا لم نفقد الأمل في استعادة عافية الدولة الليبية الوطنية، اللحظة تتطلب قراءة الدروس بعناية.

«إعصار دانيال» ليس هو الاختبار الوحيد، لكنه الأكثر قسوة، من حيث آثاره الإنسانية والاجتماعية والسياسية، وحتى الاقتصادية، لم تعد الغاية المنشودة هي إعادة الإعمار في حد ذاتها، فأي إعمار من دون إرادة ووحدة، لا يفضي إلى التئام الجروح، الرسالة تعرفها جيداً كل الأطراف الليبية الفاعلة، من الممكن شراء كل شيء إلا الأوطان، وليبيا ما بعد «دانيال»، وطن لن يحتمل أي اختبارات جديدة، على الجميع أن يفكر بضمير يقظ في مصير العباد والبلاد الليبية، ويتجرد من الأهواء والحسابات السياسية الضيقة، فالمهمة ثقيلة، فبعد أن كان الشعب الليبي يبحث عن حلول سياسية لأوضاعه الاجتماعية، بات يقتفي أثر الوجود والبقاء، على قيد الحياة. صور الضحايا المعلقة على جدران المنازل حفرت أحزاناً، لا يمكن أن تسقط بالتقادم، ولن يقبل مصابوها، بأن تصبح آلامهم وأحزانهم بضاعة رائجة في الأسواق السياسية، «دانيال» صنع جسراً ليبياً في اتجاه واحد، لا مجال للعودة إلى الوراء، أو السير في الاتجاه المعاكس.

ليس مستحيلاً العبور من هذه المحنة، الإرادة الحقيقية تستطيع تحويل الأزمة فرصة، شريطة أن تخلص النيات، ويلتف الجميع حول هدف واحد، هو عودة الدولة الليبية الواحدة، وإعادة إعمارها، وتأسيس بنية تحتية سياسية واقتصادية واجتماعية، تصلح لمواجهة الأعاصير الطبيعية والبشرية، وأن يدرك الليبيون أن المصير بات مهدداً، ومعلقاً على تطابق الرؤى، وخلق المساحات المشتركة، واحترام الاختلاف، المشروع بين النخب السياسية، والانتقال من معسكر تحقيق أكبر قدر ممكن من المكاسب إلى معسكر المشروع الوطني الجامع لكل الليبيين، بمختلف أطيافهم وتوجهاتهم، فليبيا تستحق من أبنائها التضحية، ومن أشقائها الدعم الكامل، ومن محيطها العالمي التفهم لمشروعية مطالب الليبيين في الأمن والاستقرار والسلام، وعلينا ألا نغفل أن ليبيا صاحبة مشوار طويل في الصمود، أمام كل التحديات التاريخية، بدءاً من الغزاة القدامى والجدد، ونهاية بمحنة درنة، فالوحدة كانت هي كلمة السر، وباتت الخيار الإجباري.