لو لم تكن ثمة تايوان لاخترعناها

منذ 1 سنة 165

يقف المرشد الحزبي وسط حلقة من الفلاحين، وبيده بيضة، يسحقها ليسيل الزلال الأبيض ويبقى الصفار في يده. كذلك سيكون مصير أولئك البيض في عدائهم للصين. وإذ تتصاعد المؤشرات التي ترجح احتمال غزو الصين لتايوان. ففي كلمته، في المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي، يُصعد شي جينبينغ خطابه الكفاحي: «يجب تقوية إحساسنا بالقلق والالتزام بالتفكير العقائدي، وبالطبع الاستعداد للخطر في أوقات السلم، والاستعداد للخضوع للرياح والأمواج العاتية، حتى في البحار العاصفة».

لكن المؤشرات لا تقتصر على الكلمات! إذ يجري تحويل عميق لبنيان الدولة، اقتصادياً وتشريعياً، وسياسياً، ومعلوماتياً. ليكرس الحزب الشيوعي، من جديد، موقعه كقوة مهيمنة على الدولة والمجتمع.

يشكل نظام الائتمان الاجتماعي أحد محاور هيمنة الحزب الشيوعي على تفاصيل الحياة اليومية؛ ليصبح كل مواطن مديناً في كل لفتة من حياته للرضا السياسي للحزب، فأنت لا يمكنك أن تسافر على قطار بلانو مثلاً، إن كانت درجات ائتمانك الاجتماعي غير مُرضية لسياسة الحزب. لكن يمكنك تحسين درجة ائتمانك عبر خدمات تقدمها للجيش أو التبرع بالدم.

على صعيد الاقتصاد الداخلي، حدّثت الصين، عام 2020، قانون الاستثمار الأجنبي، بما يسمح بتأميم أصول الاستثمارات الأجنبية في ظروف استثنائية يُقدّرها الحزب، ثم أقرت قانون عقوبات يمكّن السلطات من مصادرة أصول الشركات الأجنبية واحتجاز موظفيها كردٍّ على عقوبات غربية مفترضة. بدوره، يحظر قانون التجسس الجديد تبادل أية معلومات تتعلق بالأمن القومي، بالمعنى الأوسع للكلمة، بما في ذلك أبسط المعلومات المالية حول عمل المؤسسات والاقتصاد والتسويق. وتسبب ذلك في مداهمات فعلية لشركات أجنبية واعتقال الأفراد.

من جهة أخرى، يوضع الجمهور الصيني في أجواء الحرب الشاملة كاحتمال وارد. وعلى سبيل المثال، قامت ولاية فوجون، في 2023، ببناء 18 ملجأ جديداً ضد الغارات النووية، رافقتها حملة إعلامية كثيفة في سياق التعبئة للحرب. وتصاعدت اللهجة الحربية للإعلام، بعدما قامت السلطات، في 2021، ببناء بنوك الدم في المناطق المشاطِئة لتايوان، وترافق ذلك بتدريبات واسعة على انقطاع الكهرباء والمياه، كما تمّ حظر سفر ملايين الأشخاص. وبعكس التوجهات السابقة التي كانت تعمل على استقطاب «الانفصاليين التايوانيين» للاندماج في التجربة الصينية، تُصعّد الصين لهجتها ضد تايوان بشكل لم يسبق له مثيل.

فيما يتعلق بالعلاقات الاقتصادية الخارجية، تؤشر المعطيات بوضوح، للتحضير لاحتمالات الحرب والعقوبات الدولية. ففي 2022 أمرت السلطات النظام المصرفي الصيني بتقييم المخاطر واحتمالات عقوبات شديدة وعزل الاقتصاد الصيني. وفي مايو (أيار) 2022، أمرت المواطنين الصينيين في الخارج بتحرير أصولهم وإعادة رأس المال إلى البلاد. وفيما تُقْدم الصين على قرارات تخفض أرباحها بعشرات المليارات من الدولارات في السوق الدولية، يصبح من غير الممكن تفسير سلوكها هذا إلا في سياق التحوط الاستراتيجي من العقوبات الدولية. فعلى الرغم من الأرباح المعتبرة لسندات الخزانة الأميركية قصيرة الأجل، تعكف الصين على تحويلها لشراء الأصول في أوربا. بل تقوم، من جهة أخرى، بزيادة ديونها الخارجية لمراكمة الدولار. فأنت حين تحضّر «لظروف قاهرة» مثل الحرب، فإن أفضل شيء تفعله الآن هو أن تستدين. وكما يلاحظ المراقبون، تراكم مخزون الصين من الذهب بإضافة ثمانية أطنان تصل قيمتها لـ150 مليار دولار، في أبريل (نيسان) الماضي، بل ورغم تداعيات الحرب في أوكرانيا، تخزن الصين مخزونها من القمح بما يكفيها لعام ونصف العام.

في فبراير (شباط) الماضي، صرّح مدير «وكالة المخابرات المركزية» بأن الرئيس الصيني شي جينبينغ أمر الجيش الصيني بأن يكون «جاهزاً» بحلول عام 2027 لغزو «ناجح» لتايوان. ويجري توجيه كل الجهد العسكري نحو هدف عملي واحد هو تايوان، إذ جرى أول تمرين عسكري استمر 10 أيام بعد زيارة بيلوسي، تضمّن مناورات للغواصات، وإطلاق 11 صاروخاً باليستياً لمحاكاة تحييد أنظمة الدفاع الجوي التايوانية.

بعدئذ أجرت الصين مناورات السيف المشترك، التي شملت مرحلتُها الأولى انتشاراً للقوات البرّمائية، ثم السيطرة على جميع المرافق، وخاصة مرافق المعلومات. «نحن بحاجة إلى إعادة التوحيد مع تايوان في أقرب وقت، من خلال تفوق قواتنا الساحق». وتضمنت المناورات تمارين على قطع المياه والكهرباء والهواتف المحمولة؛ للتحكم بالموارد والمعلومات الصادرة عن تايوان.

في 17 أغسطس (آب) الحالي، أجرت الصين مناورات بحرية جوية ضخمة شملت مضيق تايوان في قطاعات بحرية متنازع عليها مع تايوان، شاركت فيها 10 سفن و20 طائرة.

على الرغم من ذلك، يقدِّر الخبراء أن ثمة محددات لأي هجوم برمائي. وكما في غزو النورماندي، ثمة ظروف مناخية حاكمة للتوقيت، حيث يصل المدّ والجزر لسبعة أمتار في مضيق تايوان، الأمر الذي يترك نافذة سنوية لهجوم برمائي تُقدَّر بثلاثة أشهر فقط؛ تمتد من أبريل إلى أغسطس يمكن خلالها غزو تايوان.

على عكس قادة الصين السابقين، الذين كانوا يتحدثون بصراحة عن استعدادهم لترك قضية تايوان للأجيال المقبلة، وصف الرئيس شي التوحيد بأنه «مطلب حتمي» لتحقيق ما أسماه «الحلم الصيني لتجديد الشباب الوطني»، والذي وعد بتحقيقه بحلول عام 2049.

لكن، بسبب خصوصيات النظام السياسي الصيني، لا يتحكم الرئيس شي بشكل تام باحتمالات الصدام مع الغرب، فلقد ولّدت الديناميكيات بين القيادة السياسية والجمهور الأوسع من الكوادر الحزبية، حلقة مفرغة تلقائية من الفعل وردّ الفعل، لا يسيطر عليها الرئيس شي بالضرورة. وإذ تنفخ المؤسسة الدعائية للحزب الشيوعي في نيران الخطابات التحريضية، ويجري تبجيل الجيش وقوته، وتمنح حوافز سياسية للمسؤولين المدنيين والعسكريين لتعبئة أنفسهم، كما لو كانت الحرب وشيكة غداً.

نتيجة حملته الداخلية لاستتباب زعامته، صار الرئيس شي بحاجةٍ أشد للقوى الأكثر تشدداً داخل الحزب، التي منحته أطول مدة تصفيق في خطابه أمام مؤتمر الحزب، عندما أعلن أن الصين «لن تتعهد أبداً بالتخلي عن استخدام القوة» لتحقيق التوحيد.

في حين يجري الحديث عن التهديدات المميتة للولايات المتحدة وحتمية المواجهة، يجري الترويج للثقة بنجاح الغزو، واستبعاد أية مناقشة لمخاطره، بل عبّرت الآلة الإعلامية لنشطاء الإنترنت الصينيين عن خيبة أملها، حين لم تشنَّ الصين حرباً على تايوان، بعد زيارة بيلوسي، لذلك نفترض أن القيادة الصينية لا تتحكم تماماً بهذه الديناميات، وهذا أمر خطير بحد ذاته. فنتيجة النظام المركزي، يفتقر الجدل الداخلي لأي نقاش جدي لتأثير الغزو على البلاد على المديين القصير والطويل، في حين يسود التفاؤل تجاه مخاطر الحرب.

هل يتم التصعيد بغرض اقتناص المكاسب لفرض هيمنة الصين على بحر الصين وشرق آسيا، أم أنها تنوي بالفعل الذهاب للغزو؟ لكن ما يقلق هو أن النظام السياسي في الصين يصبح أكثر مركزية، ويصبح المسؤولون والنخب وقادة الرأي أكثر انصياعاً لتلبية المواقف الشعبوية، وتطفو في المجتمع الأصوات الأكثر تشدداً و«وطنية»، ويتم استبعاد كل نقاش حول جدوى الحرب. لا تخلق هذه الديناميات تفويضاً شعبياً بالحرب فحسب، بل تولِّد إلحاحاً بالذهاب إليها، خاصة إن اقتنعت القيادة العسكرية أن مِن الأجدى الذهاب للحرب من مجابهة المخاطر الداخلية.

فحتى الدبلوماسيون «الحمائم»، الذين يتجنبون عادةً خطاب المواجهة، ينجرفون مع الموجة، وأصبحوا ينطقون بالشعارات والمواقف الأكثر تشدداً في دفاعهم عن الروايات الرسمية، ليصبح السؤال الجوهري، مع تصاعد هاجس تايوان: كيف يمكن حماية المعجزة الاقتصادية الصينية؟