في الرابع والعشرين من حزيران/يونيو بدا أنّ روسيا، القوّة النووية الهائلة، تقف على شفير حرب أهلية. لقد تحدّث الرئيس الروسي فوراً أمام الإعلام ووصف تحرّك زعيم فاغنر بالخيانة وبالطعنة بالظهر. فما الذي تغيّر الآن؟ ولماذا التقى فلاديمير بوتين بيفغيني بريغوجين وب34 ضابطاً من فاغنر؟
في الرابع والعشرين من حزيران/يونيو، عندما توجهت قافلة الزعيم المتمرّد لمجموعة فاغنر يفغيني بريغوجين من روستوف جنوباً باتجاه موسكو شمالاً، بهدف "تحقيق العدالة والإطاحة بوزير الدفاع الروسي سيرغي شويغو وقائد الأركان فاليري غيراسيموف"، سقط 15 عسكرياً روسياً خلال مواجهات محدودة، بينهم طيّارون، أي ضباط من النخبة العسكرية.
في ذلك اليوم الذي سالت فيه الدماء، بدا أنّ روسيا، القوّة النووية الهائلة، تقف على شفير حرب أهلية. لقد تحدّث الرئيس الروسي فلاديمير بوتين فوراً أمام الإعلام ووصف تحرّك فاغنر وبريغوجين بالخيانة وبالطعنة بالظهر.
والواقع أنه حتى الآن، لا أحد يعرف ما الذي حدث بالضبط بعد خطاب بوتين بوقت قليل، حتى تغيّرت مسار الأمور 180 درجة مئوية، كما أنه لم يتمّ الإعلان عن بنود الصفقة التي تمّت بين الكرملين وفاغنر.
فجأة ساد هدوء وتعقل غريبان، فعادت قافلة بريغوجين أدراجها، بعد تدخل الزعيم البيلاروسي ألكساندر لوكاشينكو، وأوليغارشيين كبار مقربين من دوائر السلطة، في وساطة أخمدت شرارة نزاع داخلي محتمل. "لا نريد إراقة الدماء"، هذا ما قاله بوتين وبريغوجين وقتها.
الصفقة والنتيجة؟
في ذلك اليوم رجّح مراقبون أن الصفقة بين الكرملين وفاغنر كانت كالتالي: بوتين يعفو عن بريغوجين، وفي المقابل، ينسحب الأخير من روسيا وأوكرانيا إلى بيلاروس، فيما توقف مجموعة فاغنر عملياتها كوحدة عسكرية مستقلة في أوكرانيا، ويلتحق من يريد من أعضائها في الجيش الروسي.
البعض الآخر قال إن بريغوجين لم يحصل على الدعم الذي كان يتوقعه من ضباط المؤسسة العسكرية، فتراجع في اللحظة الأخيرة، خصوصاً بعد شريطيْ فيديو نشرهما جنرالان كبيران داعمان له: سيرغي سوروفيكين [الذي لا يزال متوارياً عن الأنظار حتى اليوم] وفلاديمير أليكسييف، وهما يعتبران من العسكريين الأكثر تشدداً.
وأجمع الخبراء الغربيون، بدون استثناء، على أن بوتين خرج أضعف بعد التمرّد، حتى لو ذكرت بعض التقارير أنّه استبق الضربة وأنّ جهاز الأمن الفدرالي -FSB- كان على علم بالتمرد مسبقاً.
لماذا يجتمع بوتين مع "الخونة"؟
بعد مرور نحو 16 يوماً، فجّر المتحدث باسم الكرملين دميتري بيسكوف مفاجأة من العيار الثقيل مقرّاً بما جاء في تقارير صحافية نشرتها ليبيراسيون الفرنسية نشرت الأحد الماضي، وقال إن بوتين التقى ببريغوجين ومجموعة من قادة فاغنر [34 ضابطاً] في التاسع والعشرين من حزيران/يونيو، أي بعد خمسة أيام فقط على التمرّد.
كلام بيسكوف جاء بعد تصريح للوكاشينكو قال فيه إن زعيم فاغنر ليس على أراضي بيلاروس وهو موجود في روسيا، ما أوحى في ذلك الوقت أن طباخ الرئيس السابق لا يزال مدعوماً في روسيا. التصريح أيضاً عارض تماماً تصريحاً سابقاً وغريباً لبيسكوف نفسه قال فيه إن الكرملين "ليس مهتماً بتعقّب تحركات بريغوجين، ولا يمتلك القدرة التقنية على القيام بذلك أساساً".
خلال الاجتماع قدّم قادة فاغنر راويتهم لما حدث يوم التمرّد وفي الأشهر السابقة، وأكدوا أنهم من أشد المؤيدين لرئيس الدولة والقائد العام للقوات المسلحة، وأنهم مستعدون لمواصلة القتال من أجل وطنهم، بحسب ما ذكره بيسكوف في تسجيل صوتي.
احتمالات وردود فعل
في الإعلام الغربي أثار الإعلان عن اللقاء الدهشة وووصفه بعض المراقبين بالسريالي. "في قوانين الجيوش عامة، يتم رمي المتمرّدين في السجون"، هذا ما قاله أحد المحللين السياسيين على شاشة "إل سيه إي" الفرنسية، قبل أن يضيف "لا يتم استقبالهم في الكرملين، خصوصاً بعد وصفهم بالخونة من قبل السلطة".
وتوازياً مع الإعلان عن الاجتماع، نشرت وزارة الدفاع الروسية شريط فيديو لقائد الأركان غيراسيموف بعد إشاعات عن "تحييده من منصبه". وتلك كانت المرة الأولى التي يظهر فيها الرجل الذي رغب بريغوجين في الإطاحة به.
- عباس غالياموف، أحد كتاب خطابات الرئيس الروسي سابقاً قال إن بوتين يريد أن يُظهر عبر الإعلان عن الاجتماع وعبر شريط غيراسيموف إنه لا يزال سيّد اللعبة وإنه سيّد التوازن". غالياموف الذي يعيش في تل أبيب حالياً استنتج أيضاً "أن بوتين يحتاج إلى بريغوجين على الجبهة، فيما يحتاج الأخير يحتاج إلى بوتين كي لا تتم ملاحقته قضائياً".
- مدير مركز كارنيغي لروسا وأوراسيا، ألكساندر غابويف، وافق غالياموف إلى حد ما وقال إن "بوتين ليس راضياً عن بريغوجين حالياً كأن شيئاً لم يكن. ولكنّ سحق زعيم فاغنر في هذه المرحلة بالذات لا يناسب الكرملين".
- أندريه سولداتوف وهو خبير في الأجهزة الأمنية الروسية، قال إن حديث بوتين الصارم عن الخيانة "كان يستهدف في المقام الأول الجيش الروسي لمنع أي قادة من الانضمام إلى التمرد". أما بالنسبة للعلاقة مع بريغوجين، أشار سولداتوف إلى "أنّ الرجلين يعرفان بعضهما جيداً وبالتالي لا يزال بإمكانهما العمل معاً بعد الصفقة التي لا نعرف تفاصيلها".
- أما تاتيانا ستانوفايا [مؤسسة موقع R.Politiks الروسي المستقل] فقالت إن اللقاء أيضاً إشارة إلى النخبة الروسية هدفها نشر الطمأنينة. فستانوفايا أوضحت "أن رجال الأعمال الروس كانوا في حالة من التيه وتساءلوا إذا كان بريغوجين معنا أو ضدّنا"، مشيرة إلى أن الهدف من الاجتماع "إيصال الرسالة التالية لهم: بريغوجين لا يزال نظامياً".
حملة إعلامية مستمرة؟
مع ذلك، فإن الحرب الإعلامية التي يشنها الكرملين على بريغوجين كانت لا تزال سارية حتى يوم الأحد الماضي وقد يكشف مستقبلها عن معالم مستقبل بريغوجين.
فمساء الأحد قال فلاديمير سولوفييف، أحد أبرز مقدمي البرامج على شاشة Rossiya 24 الحكومية إن "بريغوجين ليس روبن هود كما حاول تقديم نفسه وإن رجل أعمال بماضٍ إجرامي".
وكان جهاز الأمن الفدرالي فتّش منزل بريغوجين الفخم في سانت بطرسبرغ الأسبوع الماضي ونشر الإعلام الروسي شرائط فيديو ظهرت فيها رزمات من من الدولارات والروبل وسبائك ذهب وأسلحة عديدة، بالإضافة إلى عدد من جوازات السفر بأسماء مختلفة وخزانة تحتوي على شعر مستعار.