وصل الدمار الذي لحق بقطاع غزة إلى مستويات لا تُحتمل وتزداد سوءاً، وتتعرض الحكومة الإسرائيلية لضغوط شديدة من عائلات الرهائن؛ لبذل المزيد من الجهود لإطلاق سراحهم قبل أن يلقوا حتفهم، وتحاول الولايات المتحدة والدول العربية، الحريصة على تجنب حرب إقليمية، التوسط من أجل إنهاء الصراع. ولكن نتنياهو يعرقل الطريق.
كما ترى غالبية الإسرائيليين وحلفائهم، فإن نتنياهو وإصراره على إنجاز «النصر الكامل» على «حماس»، من دون اعتبار للعواقب أو التكاليف، أصبحا جزءاً من المشكلة. فهو يمارس لعبة ساخرة، إذ يستخدم الحرب لخدمة أغراضه السياسية، والآن بدأ الإسرائيليون، الذين يؤيد أغلبهم الجهود الرامية إلى القضاء على «حماس»، في التململ من هذه اللعبة.
حتى إنه تمكن من عزل أهم حليف لإسرائيل. بالرغم من إظهار الرئيس جو بايدن دعمه الكامل لإسرائيل - ولنتنياهو - بعد الهجوم الفظيع الذي شنته «حماس» في 7 أكتوبر (تشرين الأول)، بما في ذلك الزيارة الشخصية للرئيس إلى الدولة اليهودية، تحدى نتنياهو عمداً وبشكل علني النصائح الأميركية كونها تتعارض مع «المصالح الحيوية» لإسرائيل. وانتهت محادثة مثيرة للجدل بشكل خاص في أواخر ديسمبر (كانون الأول) بإعلان بايدن غاضباً «لقد انتهت هذه المحادثة». لقد مر شهر قبل أن يتصل بايدن مرة أخرى.
المشكلة ليست بالضرورة موقف نتنياهو المتشدد، الذي يشاطره فيه كثير من الإسرائيليين الغاضبين من الغارة الهمجية التي شنتها «حماس»، بل إنه خلط نتنياهو بين القيادة والبقاء السياسي، مع التصور السائد بأنه يعارض أي تسوية تفاوضية وأي نصيحة أو وساطة أميركية، ليس لأنه يعتقد حقاً أنها تتعارض مع مصالح الإسرائيليين، كما يزعم، ولكن لكي يبدو أنه يصمد في وجه «الضغوط الأميركية»، وتصوير الحرب في غزة على أنها صراع أوسع نطاقاً حول دولة فلسطينية وضد إيران مما يخدم أهدافه السياسية.
يبدو أن هذا، على الأقل، هو ما تعتقده أغلبية الإسرائيليين، حتى أولئك الذين قد ينحازون بخلاف ذلك إلى إصرار رئيس الوزراء على محاولة القضاء التام على «حماس». وطبقاً لاستطلاع للرأي جرى في أواخر ديسمبر، فإن 15 في المائة فقط من الإسرائيليين كانوا يريدون له البقاء في منصبه بعد انتهاء الحرب.
خارج حدود إسرائيل، يثير حجم الخسائر البشرية والدمار في غزة الرعب بشكل متزايد. ووفقاً لوزارة الصحة في غزة، قُتل أكثر من 26 ألف شخص، وتم تسوية مساحات شاسعة من القطاع الضيق بالأرض. ويوم الجمعة، قالت محكمة العدل الدولية في لاهاي بهولندا، وهي جزء من الأمم المتحدة، إنه على إسرائيل اتخاذ إجراءات لمنع أعمال الإبادة الجماعية التي تقوم بها قواتها في غزة، فضلاً عن السماح بدخول مزيد من المساعدات إلى القطاع. ولم يطالب هذا الحكم، وهو خطوة أولية في قضية رفعتها جنوب أفريقيا تتهم فيها إسرائيل بارتكاب الإبادة الجماعية، إسرائيل بوقف حملتها العسكرية فوراً، ولكنه أسهم في الضغط على إسرائيل لإيجاد سبل لوقف الاشتباك.
لكن كيف تنتهي الحرب، وما يحدث «بعد غزة»، على حد تعبير المعلقين الإسرائيليين، يتوقف بقوة على من يتولى زمام الأمور. ومن المعروف أن من الأعضاء الرئيسيين في حكومة الحرب التي تم تشكيلها لإدارة القتال، بيني غانتس وغادي أيزنكوت، وهما رئيسا أركان سابقان، يختلفان بشدة مع نتنياهو، خصوصاً بشأن المسألة المؤلمة المتمثلة في الرهائن من الإسرائيليين الذين تحتجزهم «حركة حماس»، والذين يعتقد أنهم 129 من النساء والرجال.
بذلت إسرائيل تاريخياً جهوداً كبيرة لاستعادة الأسرى وحتى رفات أولئك الذين هلكوا، لذلك فإن مصير الرهائن أمر أساسي في النقاش الداخلي الإسرائيلي حول الحرب. وقد ناضلت أسرهم بشغف لجعل الإفراج عن الرهائن أولوية في أي مداولات بشأن سير الحرب، خوفاً، كما قال أيزنكوت في مقابلة، من «استحالة إعادة الرهائن أحياء في المستقبل القريب من دون التوصل إلى اتفاق». وقد أصر نتنياهو وأنصاره اليمينيون على أن الضغط العسكري المتواصل على «حماس» هو وحده الذي يمكن أن يؤدي إلى إطلاق سراحهم.
يُشكل الرهائن أيضاً أهمية محورية للجهود التي تبذلها ثلاثة أطراف رئيسية - الولايات المتحدة، الداعم الرئيسي لإسرائيل؛ ومصر، وهي بلد عربي متاخم لإسرائيل وغزة؛ وقطر، وهي مانح رئيسي لغزة - للوساطة. وهدفهم هو عملية تدريجية، بحسب تقرير نشرته صحيفة «وول ستريت جورنال» في 21 يناير (كانون الثاني)، ستبدأ بإطلاق سراح الأسرى، وستؤدي إلى وقف دائم لإطلاق النار.
إنها مهمة طويلة، ويرجع ذلك جزئياً إلى أن قيادة «حماس» منقسمة بين الجناح القتالي داخل غزة والقادة في الخارج. ولكن إدارة بايدن تعتقد أنه من دون أي عملية دبلوماسية، يمكن أن تندلع حرب أكثر خطورة مع «حزب الله» على الحدود الشمالية لإسرائيل، وأن هجمات الحوثيين على السفن في البحر الأحمر يمكن أن تتصاعد إلى نزاع إقليمي أوسع يشمل إيران. علاوة على ذلك، ترى الإدارة الأميركية أن مهمة إعادة إعمار غزة والحكم فيها بطرق تُرضي أمن إسرائيل أصبحت اليوم أكثر جدوى من أي وقت مضى لأن الدول العربية والإسلامية، بما في ذلك المملكة العربية السعودية، قد أبدت استعداداً جديداً لتطبيع العلاقات مع إسرائيل.
لكن كما أشار وزير الخارجية أنتوني بلينكن في «دافوس» بسويسرا، فإن الدول العربية والولايات المتحدة سوف تصر على «أن هذا لا بد أن يشمل الطريق إلى إقامة دولة فلسطينية».
هنا، يقف نتنياهو بقوة في الطريق. فهو لم يعرض أي خطة حقيقية لما «بعد غزة» من جانبه، لكنه بدلاً من ذلك جعل نفسه الرجل الوحيد الذي يعرقل قيام دولة فلسطينية في الضفة الغربية أو غزة، وبوصفه الزعيم الإسرائيلي الوحيد الذي استعد للوقوف في وجه جهود بايدن لإنهاء الحرب. فقد قال إنه بمجرد انتهاء الحرب في غزة سوف يعمل على فرض «السيطرة الأمنية الإسرائيلية الكاملة على الأراضي كافة الواقعة غرب نهر الأردن»، وهو ما يعني ضمناً العودة الكاملة إلى الاحتلال العسكري الكامل.
من المؤكد أن هناك أسئلة مطروحة للنقاش هنا، وإصرار إسرائيل على القضاء على التهديد الذي تُشكله «حماس» له ما يبرره تماماً. ولكن الخيارات الصعبة وغير الشعبية في كثير من الأحيان التي يتعين على إسرائيل أن تتخذها لتحقيق نصر دائم من هذه الحرب تتطلب زعيماً حقيقياً. وكما زعم مجلس تحرير صحيفة «نيويورك تايمز»: «لا يستطيع نتنياهو أن يقود إسرائيل في البحث عن السلام». وأضاف أن حكومته «عملت بثبات ضد التوصل إلى تسوية مع الفلسطينيين».
لقد فقد نتنياهو ثقة شعبه وحلفائه. وهو ساحر سياسي كان في منصب رئيس الوزراء لمدة 16 عاماً منذ عام 1996، وأمضى السنوات القليلة الماضية تحت طائلة الاتهام بالفساد مع بذل الجهود اليائسة للبقاء في منصبه. وكانت آخر مناورة تتلخص في ضم القوميين من اليمين المتطرف إلى مجلس وزرائه، والشروع في تحدي الرقابة القضائية على الحكومة، الأمر الذي أدى إلى احتجاجات شعبية حاشدة استمرت أسابيع.
* خدمة «نيويورك تايمز»