لبنان... بلاد في قبضة الشارع

منذ 1 سنة 312

ليس مستغرباً هذا الذي يجري في لبنان. عندما تفقد الدولة هيبتَها، ويصبح القانونُ وجهة نظر تخدم صاحب اليد الطولى التي تملك القوة وتتحصَّن بالسلاح، يتحوَّل البلد إلى مزرعة، وتحلّ شريعة الغاب مكان القانون. هكذا يصبح طبيعياً أن يتدافع الناس إلى الشارع للحصول على حقوقهم، عندما يفقدون ثقتهم بدولتهم؛ سواء كان ذلك أمام المقر الرئيسي للجسم القضائي في وزارة العدل، حيث يتجمع أهالي ضحايا انفجار مرفأ بيروت للمطالبة بمتابعة التحقيق في أكبر جريمة هزت لبنان، ووُصفت بأنَّها في حجم انفجار قنبلة نووية، أو أمام المقر الرئيسي للمصرف المركزي حيث يتجمَّع المودعون للمطالبة باستعادة أموالهم التي تبخرت نتيجة تمويل هذا المصرف للفساد المستشري في أجهزة الدولة، الذي كلف اللبنانيين وسائر أصحاب الودائع أكثر من 80 مليار دولار، أو أمام الأفران ومحطات المحروقات للحصول على أرغفة الخبز أو كميات الوقود التي يمكنهم الحصول عليها بما تبقى في جيوبهم من نقود.
في وضع كهذا يتصل فيه الفلتان الأمني بالشلل السياسي والانهيار الاقتصادي، لا يبقى أمام صاحب الحق أو فاقد النفوذ سوى الصمت والقبول بما كُتب له، أو اللجوء إلى الشارع، عندما يشعر بأن سلطة القانون التي يُفترض أن تحميه وتساعده على الحصول على حقوقه أو رفع الضرر عنه، لم تعد قادرة على ذلك، بفعل المحسوبيات والوساطات وخدمة مصالح أصحاب النفوذ.
والمثال الأبرز على ذلك المشهد المعيب الذي لا سابق له، والذي حصل داخل الجسم القضائي، حيث انقسم كبار القضاة حول طريقة تطبيق القانون وأسلوب التعامل مع الموقوفين في قضية انفجار المرفأ، حتى إن كبار القضاة تحولوا إلى محاكمة بعضهم، بدلاً من أن ينصبّ عملهم على إنقاذ ما أمكن من السمعة المنهارة للقضاء اللبناني، وتحقيق العدالة لأهالي أكثر من 200 ضحية و7 آلاف جريح من الذين تضرروا من الانفجار.
وزاد في مساوئ هذه الصورة ما أخذ يسود من استنتاجات قانونية بأن ملف التحقيق طُوي نهائياً، وأن المستفيدين الوحيدين من هذا الانقسام القضائي هم الأشخاص الذين تم توجيه التهم إليهم في ملف الانفجار، وهم الذين عطلوا عمل المحقق العدلي منذ أكثر من سنة، ومعظمهم من المقربين من «حزب الله»، الذي قام أحد أبرز المسؤولين فيه بزيارة إلى قصر العدل في بيروت، حيث هدد بـ«اقتلاع» القاضي طارق البيطار، المكلف التحقيق، وذلك بعدما تولى أمين عام الحزب مهمة توجيه انتقادات مباشرة له بسوء استخدام صلاحياته، والتحامل في اتهاماته. وتخالف هذه الانتقادات القانون اللبناني، الذي لا يعيره نصر الله أي اهتمام، والذي يمنع أي شخص من التعرض للقاضي أثناء قيامه بعمله؛ إذ تعود هذه الصلاحيات للأجهزة القضائية المكلفة مراقبة عمل القضاة.
بلاد لا تتعب من الغرق إلى القعر. انهيار ينجب انهياراً. مصارف مفلسة. قضاء مشلول ومنقسم على نفسه. عملة وصلت قيمتها إلى الحضيض. مناصب عليا تفرغ من شاغليها، ويستغرق الأمر شهوراً وسنوات لاختيار مَن يخلفهم فيها. وزراء سابقون ونواب ملاحَقون ومدّعى عليهم يعودون إلى مواقعهم وكأن شيئاً لم يكن. ويفاخر وزير (وقاضٍ سابق) داخل قاعة مجلس الوزراء بأنه مستعد للخروج مع أحدهم في نزهة على شاطئ البحر، متحدياً مَن يجرؤ على توقيفه. حاكم «المصرف المركزي»، المسؤول الأول عن تحصين الوضع الاقتصادي وحماية العملة الوطنية يُلاحَق بتهم تتراوح بين تبييض الأموال وجمع ثروات بطرق غير قانونية، وتحقق أجهزة قضائية أوروبية في تعاملاته المالية، ويبقى في منصبه، من دون أي قرار داخلي، ولو بتنحّيه مؤقتاً إلى حين بلوغ التحقيقات المتعلقة بوضعه النتائج التي تؤكد براءته، ليعود لاستكمال عمله.
مشاهد وصور يمكن أن يعتبرها أي مواطن في أي بلد آخر صوراً سوريالية أو قادمة من عالم الخيال. لكنَّها في لبنان تصبح صوراً طبيعية، لا يجد اللبناني بداً من التعايش معها كل يوم.
يزيد في سواد الصورة أنَّ الشللَ المسيطر على كل مرافق الدولة في لبنان يصبُّ في خدمة الطرف الأقوى، الذي يزداد قوة كلما ازدادت أجهزة الدولة ضعفاً. لقد وضع «حزب الله» نفسه في موضع المتضرر والمستهدَف من تحقيقات انفجار المرفأ. وأصبح المحقق العدلي القاضي طارق البيطار هدفاً لحملات أمينه العام. وأدَّى ذلك إلى انشقاق البلد، كما هو حاصل اليوم، انشقاقاً عمودياً وطائفياً حول هذه القضية، بحيث صار الطرف المدافع عن البيطار والمطالب بمتابعة التحقيق مصنفاً في خانة المواجهة مع «حزب الله»، في حين أن الطرف الآخر المتحالف مع الحزب يشن الحملات على القاضي، ويتهم من يدافعون عنه بالمتاجرة بدماء ضحايا الانفجار. والأمر ذاته ينطبق على كل مسألة أخرى؛ من الشلل السياسي إلى الأزمة المصرفية، فيما تزداد المخاوف من جرّ البلد إلى فوضى أمنية، في ظل عجز المؤسسات وانحلالها، وفقدان الناس الثقة بقدرة دولتهم على حمايتهم والعثور على حلول لأزماتهم.