لاجئ سوري يعيد بناء البيوت الدمشقية على طريقة المصغرات

منذ 1 سنة 118

حين وصل ألمانيا قبل ثماني سنوات منصرمة هرباً من ويلات الحرب في بلاده، لم يتخيل السوري غزوان عساف ما صنعته ريشته لمداواة جراح روحه الحزينة، فلقد أخذ الرسم والفنون التشكيلية كل وقته وحياته ليجد نفسه غارقاً بالألوان القاتمة والحزينة تأثراً بما شهده أثناء الحرب إلى أن جاء يوم غيّر من مسار رحلته نحو عالم المجسمات الصغيرة.

بدأت حكاية عساف قبل عامين حين طلب منه أحد السوريين المهاجرين تجسيد بيته الدمشقي بعمل فني مختلف، ووقتها جالت في نفسه خواطر عن جمال الدار العربية العتيقة المسكونة بالألم بعد رحلة نزوح أصحابها عنها، ليحيك ببقايا الألوان الزيتية مشهد الحرب والصراع المسلح الدائر ويحوله إلى قطعة فنية مميزة.

يروي الفنان السوري أنه يجسد ذكريات كل شخص منا في يوم من الأيام من خلال صنع المجسمات التي تستحضر مشاهد ماض يلامس القلوب، وهذه الأعمال لا تقتصر فقط على المفهوم المستهلك للفن، ألا وهو التعبير عن الجمال والروعة في تجسيد الأشياء، بل يعكس أيضاً الألم العميق جراء أحداث عصفت بجمالها مثل الحروب والكوارث.

3_(58).jpg

تجسيد البيت الدمشقي بعمل فني مختلف (اندبندنت عربية)

تراثية الأماكن

يستخدم صاحب الأجسام الصغيرة أدق الأدوات ليبرز تفاصيل المكان ويسخرها كلغة تعبيرية عن الحزن والمأساة التي حصلت في تلك المناطق المنكوبة، محاولاً أن يضع بصيص أمل ومستخدماً مواد مختلفة مثل الخشب والحجر والرخام والفسيفساء والزجاج والمعادن لتشكيل قطع فنية تقارب في طبيعة تصميمها المواضيع التي يختارها من صميم الشارع السوري، مثل البيوت القديمة والحارات الشامية والدمار والحرب وغيرها.

وتتسع المواضيع التي تناولها الفنان غزوان عساف محاولاً تسليط الضوء على التراث السوري والقضايا المتعلقة بالمجتمع، مع توثيق الأحداث والتجارب الإنسانية بشكل دقيق وموثوق، وتحدث عن كيفية رصده لمعيشة الناس في ظل الظروف الصعبة، وكيف يمكن للفن أن يتحول إلى وسيلة للتعبير قد تساعد في فهم أعمق للواقع، وبذلك يسهم في الحفاظ على التراث والذاكرة التاريخية للمجتمع السوري، مضيفاً أن "الفن طريقة أستطيع من خلالها التعبير عن مشاعري ومشاعر الآخرين، ومشاركة الأفكار مع بقية المجتمعات بغض النظر عن اختلاف هوياتنا وثقافتنا وأدياننا ولغاتنا وما إلى ذلك، لأن الفن مرآة تعكس تنوع البشرية وتجاربها المختلفة، ويحمل رسائل اجتماعية مؤثرة تعبر عن قضايا العصر وتحاكي تحديات المجتمع بأشكاله المتعددة، وقد يلهم الفن كثيراً من الناس لاستكشاف التجارب الإنسانية أو يسعد القلوب ويترك أثراً إيجابياً".

الحياة في الغربة

ولم يتعلم عساف الرسم قبل نزوحه قسراً، فلقد بدأت رحلته مع الفن عندما وصل إلى ألمانيا عام 2015 وحاول وقتها استغلال الوقت بشيء مفيد، وتجربته في الهرب من الحرب أسهمت في تطوير موهبته بشكل أكبر للتعبير عن مشاعر الخوف والأمل، وتطور الرسم لديه ليتحول بعدها إلى صناعة المصغرات.

ويخبر الشاب السوري كيف تواصل أحد المعجبين بأعماله معه طالباً منه صناعة منحوتة مصغرة تطابق منزله الدمشقي ونجح في ذلك، "فلقد كان تحدياً كبيراً بالنسبة إليّ في بداية الأمر".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

ولعل كل سوري هُجّر قسراً من بلده لازال بيته يسكن فؤاده ولا يبارحه، وبدت فكرة إنشاء مجسمات تطابق بيوت السوريين في أوطانهم فكرة مميزة ومتاحة، وكان الهدف منها مواساة السوريين الذين يحنون لوطنهم، "طلب مني كثير من الأشخاص صناعة مجسمات لبيوتهم الجميلة أو صناعة أعمال تجسد منازلهم التي دمرت جراء الحرب، وكانت تجربة صعبة بالنسبة إليّ لما تحتاجه من مشاعر عميقة وتأمل تجسيداً للدمار والخراب".

جزئيات الدار العربي

صنع عساف أكثر من 25 مجسماً ولديه كثير من الأعمال الفنية في دول مختلفة، وهو يعتبر أن "الدمار لا يمكن نسيانه، ومشاعر الناس لم تبدد وهي محل تقديس وإلهام"، بحسب رأيه.

وإزاء ذلك ينتاب المشاهد لأعمال غزوان مشاعر تختلط بالحنين للمدينة القديمة بتفاصيل شوارعها ونباتاتها ووعاء نبات "الحبق" الأخضر الذي يعطر منازل السوريين في فصل الصيف لتعبق رائحته وتمتزج مع عطر الورد الجوري والياسمين حول نافورة بحيرة الدار التي تتوسط المكان.

4_(10).jpg

تلقى مجسمات البيوت الشامية رواجاً لدى اللاجئين السوريين (اندبندنت عربية)

وتنظر الألمانية والمهتمة بالفنون التشكيلية غابي بيكر إلى أعمال غزوان بعين الاهتمام، فهي تعرفت إلى سوريا والحرب والصراعات الدائرة وما أفضت إليه من دمار من خلال لوحاته ومجسماته، وتقول "شاهدنا الحرب الدائرة عبر شاشة التلفزيون لكن هذه الأعمال تركت تأثيراً في قلبي، ولابد من استقبال ومساعدة السوريين على التعافي من وطأة الحرب".

وفي هذه الأثناء لاقت مجسمات البيوت الشامية رواجاً لدى النازحين إلى البلدان الأوروبية، ويؤكد السوري عصام خربوطلي المقيم في ستوكهولم أن "كل سوري يرغب بتلمس منزله، وبات بإمكانه ذلك من خلال مجسم يحاكي البيت بتفاصيله الصغيرة، إنها فكرة رائعة، فبيوت أهلنا وأجدادنا تسكن في ذاكرتنا، لكن أبناءنا الذين ولدوا في دول الاغتراب لا يعلمون عنها شيئاً إلا من خلال بضع صور قد تكون ملتقطة على الهواتف النقالة".

الواقع والخيال

في غضون ذلك يسعى عساف إلى دمج الواقع مع الخيال في أعمال ذات معان فنية عميقة تحاكي الثقافة السورية وتعبر عن المعاناة، كما يرغب في توسيع نطاق أعماله الفنية في المستقبل وطرحها في المعارض ويقول، "سأشارك في معارض في ألمانيا ودول مختلفة العام المقبل، فأنا متحمس لعرض أعمالي أمام جمهور عالمي والتواصل مع الناس من خلال هذه المعروضات التي تحمل رسائل وقصصاً تهم البشرية جمعاء، كما أتطلع إلى تقديم أعمالي بالتعبير عن مواضيع وأفكار تتراوح بين الثقافة والتراث السوري".

ولدى مبتكر المجسمات الصغيرة رسالة لإلهام الناس وتحفيزهم على التفكير والتفاعل مع القضايا الإنسانية بشكل أعمق، إذ يختم غزوان حديثه قائلاً "سأعمل بجد لجعل مشاركتي الفنية تحقق نجاحاً وتأثيراً إيجابيين في المجتمعات والمعارض التي سأشارك فيها".