الإجابة:
الحمدُ لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصَحْبِه ومَن والاه، أمَّا بعدُ:
فكل إنسان -مؤمن وغير مؤمن- يعرفه من نفسه أنه لا يعصمه من الله أحد إن أراد به سوءًا، أو أراد به رحمة، وأنه ليس له من دون الله ولي ولا نصير، وأنه لافرار من أمره وحكمه، ولا ملجأ منه إلا إليه؛ كما قال تعالى: {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ}؛ والله سبحانه لا يخيب أمل آمل، ولا يضيع عمل عامل، متى أحسن الظن بالله، وحسن جاؤه، وصدق توكله.
إذا تقرر هذا؛ فالعلاج الناجع لكل ما أنت فيه من بعد عن الله تعالى، هو صدق الفرار إلى الله تعالى، وهذا يتطلب الجد والعزم، وصدق الإرادة واستجماعها، وصدق العمل وبذل الجهد فيه؛ فالله سبحانه أمر بتلقي أوامره بالعزم والجد؛ فقال: {خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ } [البقرة: 63] وقال: {وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا} [الأعراف: 145]، وقال {يَايَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ} [مريم: 12]، أي بجد واجتهاد وعزم، لا كمن يأخذ ما أُمر به بتردد وفتور.
وبذلك يتمكن المسلم أن يهرب من ضيق صدره كله، إلى سعة فضاء الثقة بالله تبارك وتعالى، وصدق التوكل عليه، وحسن الرجاء لجميل صنعه به، وتوقع المرجو من لطفه وبره، كما قيل: لا همّ مع الله؛ قال الله تعالى: { وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا}[الطلاق: 2]، يجعل له مخرجًا من كل ما ضاق على الناس، ومخرجا من كل شدة، والآية جامعه لشدائد الدنيا والآخرة، ومضايق الدنيا والآخرة، كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية.
وقال سبحانه: {مَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ } [الطلاق: 3]، أي كافي من يثق به في نوائبه ومهَمَاته، يكفيه كل ما أهمه، والحسب الكافي.
قال الإمام ابن القيم في "الرسالة التبوكية"(ص: 17-19) - في معرض كلامه عن الهجرة إلى الله -: "وهي هجرة تتضمن (من) و (إلى)، فيهاجر بقلبه من محبة غير الله إلى محبته، ومن عبودية غيره إلى عبوديته، ومن خوف غيره، ورجائه والتوكل عليه، إلى خوف الله ورجائه والتوكل عليه، ومن دعاء غيره وسؤاله والخضوع له والذل والاستكانة له، إلى دعائه وسؤاله والخضوع له والذل له والاستكانة له، وهذا بعينه معنى الفرار إليه؛ قال تعالى: {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ} [الذاريات: 50]، والتوحيد المطلوب من العبد هو الفرار من الله إليه.
فإن الفرار إليه سبحانه يتضمن إفراده بالطلب والعبودية ولوازمها، فهو متضمن لتوحيد الإلهية، التي اتفقت عليها دعوة الرسل - صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.
أما الفرار منه إليه، فهو متضمن لتوحيد الربوبية وإثبات القدر؛ وأن كل ما في الكون من المكروه والمحذور الذي يفر منه العبد، فإنما أوجبته مشيئة الله وحده؛ فانه ما شاء كان ووجب وجوده بمشيئته، وما لم يشأ لم يكن، وامتنع وجوده لعدم مشيئته.
فادا فر العبد إلى الله، فإنما يفر من شئ إلى شئ وجد بمشيئة الله وقدره، فهو في الحقيقة فارٌّ من الله إليه.
ومن تصور هذا حق تصوره فهم معنى قوله صلى الله عليه وسلم: "وأعوذ بك منك"، وقوله: "لا ملجأ ولا منجى منك ألا إليك"؛ فانه ليس في الوجود شئ يفر منه، ويستعاذ منه، ويلتجأ منه، إلا هو من الله خلقاً وإبداعًا.
فالفار والمستعيذ: فار مما أوجده قدر الله ومشيئته وخلقه، إلى ما تقتضيه رحمته وبره ولطفه وإحسانه، ففي الحقيقة هو هارب من الله إليه ومستعيذ بالله منه.
وتصور هذين الأمرين يوجب للعبد انقطاع تعلق قلبه عن غيره بالكلية، خوفاً ورجاء ومحبة؛ فإنه إذا علم أن الذي يفر منه ويستعيذ منه إنما هو بمشيئة الله وقدرته وخلقه، لم يبق في قلبه خوف من غير خالقه ومُوجده، فتضمن ذلك إفراد الله وحده بالخوف والحب والرجاء". اهـ.
هذا؛ ومن حقق تلك المعرفة هان عليه الابتعاد عن الأسباب المهيجة للشهوة، والمغرية للمعصة، وتجنُّب مواطنها، واستحضر المخوفات الواردة فيها، والآثار الوخيمة المترتِّبة عليها، ولا شك أنَّ العبدَ إذا تَوَجَّه إلى ربِّه بنيَّة صحيحة وقلب مخلص، فإنه - تعالى بفَضْله وكرَمه - يُعينه على قصْده الحسَن، ويهديه إلى الطريق المستقيم، ويهَيئ له أسباب التوبة؛ قال تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت: 69].
وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (والمجاهِد مَن جاهَد نفسه في طاعة الله، والمهاجر مَن هجر الخطايا والذنوب)؛ رواه أحمد.
وتمكن من الحذر من الاغترار بحلم الله وكرمه، وحقق شروط التوبة الصادقة، وابتعد عن الإصرار على المحرمات عمومًا، وتلك العادة خصوصًا؛ لأن السبب الأول للمعصية الغفلة، الشهوة، ولكل واحدٍ منهما علاج ناجع يقطع مادتها.
وأعظم الدواء المسارعة بالتوبة النصوح، فهي أجل الطاعات، والله سبحانه يفرح بتوبة عبده أعظم من فرح الواجد لراحلته في الأرض المهلكة، بعد اليأس منها، كما في صحيح مسلم عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "واللهِ، لله أفرح بتوبة عبده من أحدكم يجد ضالته بالفلاة"، ففرحه سبحانه بتوبة عبده محض كرم وبر، وجود وكرم، ورحمة وإحسان؛ فالله عز وجلَّ سبقت رحمته غضبه، وحلمه عقوبته، وعفوه مؤاخذته، وكتب على نفسه الرحمة، وأنه يحب الإحسان والجود والعطاء والبر.
فالعفو والمغفرة والرحمة أحب إليه من الانتقام والعقوبة والغضب، والفضل أحب إليه من العدل، والعطاء أحب إليه من المنع، حتى قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} [البقرة: 222]، وقال صلى الله عليه وسلم: "لله أرحم بعباده من الوالدة بولدها"؛ متفق عليه.
والله تعالى يقبل توبة كل من تاب، متى اجتمعت فيه شروط التوبة الصادقة من الإقلاع عن الذنب، والابتعاد عن أسبابه، وكلِّ ما يؤدي إليه، والعزمُ على عدم العود إليه، والندمُ على ما فات؛ قال تعالى: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا }[النساء: 17]، وقوله: {وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا} [النساء: 110]، وقال - سبحانه وتعالى -: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ{ [الزمر: 53].
وقال – تعالى -:{وَالَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا* يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا* إِلا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا} [الفرقان:67-70]، وقال تعالى: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور31]، وقال: {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ } [الشورى: 25]، والآيات بهذا المعنى كثيرة جدًا.
أما السنة فقد تواترت الأحاديث في ذلك؛ ويكفي المسترشد قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إن الله يَبْسُطُ يَدَهُ بالليل؛ ليتوب مسيءُ النهار، ويَبْسُطُ يَدَهُ بالنهار؛ ليتوب مسيءُ الليل حتى تَطْلُعَ الشمس من مغرِبِهَا"؛ رواه مسلمٌ من حديث أبي موسى، وروى ابن ماجه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو : "التائب من الذنب، كمن لا ذنب له".
بل اقتضت رحمة الله وحكمته ألا يجعل التائب في آخر القائمة، وإنما جعله من أول ركب المتقين؛ قال الله تعالى: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران: 133]، ثم ذكر منهم: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ* أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} [آل عمران: 135، 136]،، والله أعلم.