لا تعالج قلقك فقد تكون فوائده أكبر من أضراره

منذ 8 أشهر 79

ملخص

أسهمت مشاعر كالخوف والقلق والأمل في بناء الحضارة الإنسانية لأنها سبب للمثابرة والبقاء على يقظة والتصرف بطرق تتجنب الكوارث في المستقبل

يطرد كثيرون القلق الذي ينتابهم بطرق مختلفة، منها التسليم للقدر بأن ما يصيبنا لا يمكننا إبعاده عنا مهما حاولنا، أو بواسطة تقوية الذات تلخصها مقولات مختلفة من قبيل "ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل" أو "تجري الرياح بما لا تشتهي السفن"، أو "الواقعة التي لا تقتلني تقويني"، وهناك شخصيات معروفة في المجتمع الإنساني تروي في سيرتها الذاتية كيف تمكنت من مقاومة المصاعب والعوائق التي كانت في طريقها لتحقيق مآربها.

داء العصر أم دواؤه؟

ويقال في الوقت الحاضر إن القلق هو مرض العصر، إذ قد يصاب أي شخص بالقلق بكمية كافية لتجعله مرضاً يحتاج إلى مداواة سواء بالأدوية الكيماوية أو بزيارة الطبيب النفسي أو بممارسة عادات جديدة صحية، وقد يكون هذا القلق لسبب معروف ناتج من حادثة محددة، أو يكون قلقاً عاماً يصيب الشخص من دون أن يعرف سبباً معيناً أو محدداً يذهب القلق بذهابه، وهذا النوع من القلق هو الذي يسمى مرض العصر لأنه قد يصيب أشخاصاً لا هموم معينة لديهم تتعلق بالمعيشة اليومية أو بالمستقبل أو بمشكلات معينة أصابتهم أو عائلاتهم وأصدقاءهم، ولكنهم على رغم ذلك يحتاجون إلى أنواع من الأدوية كي يتمكنوا من العيش بهدوء وبسلام. ويقول علماء الدماغ بعد عقود طويلة من محاولات استكشاف عوالم الدماغ وأغواره أن بعضنا يفرز من الهرمونات أقل أو أكثر من غيره، وهذه الزيادة أو النقصان في أنواع من هذه الهرمونات تؤدي إلى أمراض نفسية مختلفة ومنها القلق، ومن هذه الهرمونات التستيرون والدوبامين والهيستامين، وبالتالي يمكن للأدوية تعويض النقص أو تخفيف الزيادة في هذه الإفرازات.

man_lonely_park_night_dark_mystery_alone_male-623883.jpg

شخصيات معروفة في المجتمع الإنساني تروي كيف تمكنت من مقاومة المصاعب  (pxhere)


بعيداً من التداوي بالأدوية أو التداوي النفسي، هناك من يعتبر أن طرد القلق من متطلبات الحياة، يكون بالنظر إلى النصف الملآن من الكوب، أي النظر إلى الإيجابيات التي تكتنفها السلبيات، ويقول فرويد، أب مدرسة التحليل النفسي، أنه يمكن "تصعيد" القلق أي تحويله من حالة نفسية مزعجة إلى سبب للإنتاج العبقري، وبرأيه فإن الفنانين على اختلافهم، كالرسامين والأدباء والشعراء، يصعدون في أعمالهم الفنية قلقهم أو ينفسون عنه بهذه الطريقة، ولولا وجود مثل هذا المهرب لكانوا بحاجة إلى الإقامة في المصحات العقلية والنفسية الخاصة بالمجانين. أما كارل يونغ، تلميذ فرويد، فقد رأى بالإيمان الماورائي طريقةً مثلى للانقضاض على القلق وحذفه تماماً من نمط العيش، فالمؤمن لا يصيبه إلا ما أراد له ربه صاحب القدرات المطلقة، وأن إرادة الرب ولو كانت تبدو سلبية كالمرض أو موت قريب أو خسارة المال والعمل وغير ذلك، إلا أنها لا بد في نتائجها مفيدة لصاحبها أو لغيره.

depression_mental_health_sadness_mental_health_stress_pain_depressed-875067.jpg

 البعض يحتاج إلى أنواع من الأدوية كي يتمكنوا من العيش بهدوء وبسلام (pxhere)

وكان كارل يونغ من المدافعين عن الإيمان الديني كونه يقلص بشدة أسباب الأمراض النفسية، فالخير كله من الرب والشر كله من الشيطان، ومحاربة الشيطان تكون بالدعاء للرب، وهذه برأيه وسيلة ناجعة تخفف من الحاجة إلى الأدوية وإلى العلاج بواسطة الحديث مع آخر غالباً ما يكون الطبيب النفسي. فالإله هنا بمثابة الطبيب، والشيطان هو المرض الذي يجب معالجته. ولهذا فإن كل الأديان تتضمن الدعاء إلى الرب لإبعاد الأشرار ولإبعاد الناس عن التجارب السيئة.
ومع ذلك لا يزال القلق بالنسبة لكثير من الناس أمراً خانقاً في حياتهم اليومية وبات مرادفاً للشعور بالسوء والتوتر، وما لذلك من تأثير على مجرى الحياة الفردية بأكملها داخل المجتمع وبين أفراد الجماعة العامة.

7c523e83a453286c252e2afc3e4a-1685120.jpg

بات القلق مرادفاً للشعور بالسوء والتوتر (pxhere)

العواطف كأدوات للتطور

ونشر موقع "بسيكولوجي توداي" المهتم بعلم النفس حول العالم أننا "نعيش في عصر القلق"، إذ تُظهر مؤشرات محركات البحث أن عملية البحث عن كلمة القلق قد زادت بأكثر من 300 في المئة خلال الأعوام الماضية. وتفيد الأرقام بأن 30 في المئة من سكان الولايات المتحدة يعانون من اضطراب القلق في مرحلة ما من حياتهم والتي يمكن أن تتراوح من اضطراب القلق العام إلى اضطراب الهلع واضطراب القلق الاجتماعي وهو أحد أكثر الأنواع شيوعاً. وبحسب علماء نفس وعلماء النفس الاجتماعي في أنحاء مختلفة من العالم فإن ما يدلل على أن القلق بات جزءاً من يومياتنا هو دخول الكلمة في كلامنا العامي، فنصف بالقلق كل ما يصيبنا بالتوتر سواء في التحضير لسهرة ما، أو في التقديم لعمل جديد، أو في الانتقال من منطقة إلى أخرى، أو في الدخول في علاقة عاطفية جديدة، وبتنا نستخدم عبارة "القلق" لنصف ما ينتابنا من شعور بعدم الراحة للقيام بهذا العمل الجديد والذي قد يغير روتين حياتنا المعتاد.

work_management_time_management_office_working_deadline_schedule_management_time-700451.jpg

تُظهر مؤشرات محركات البحث أن عملية البحث عن كلمة القلق زادت بأكثر من 300 في المئة خلال الأعوام الماضية (pxhere)


واضطرابات القلق أكثر شيوعاً من سائر تشخيصات الصحة العقلية، وأكثر شيوعاً من الاكتئاب والإدمان، ولو تم إجراء تشخيص لسكان العالم فستُحسب غالبيتهم كمصابين بمرض القلق بحسب مجلة "علم النفس"، بخاصة بين الشباب. وما يثير انتباه علماء النفس هو أن معدلات الإصابة بهذا النوع من القلق آخذة بالازدياد منذ عقدين. ولهذا السبب ظهرت عشرات الطرق المعدة لعلاج القلق بدءاً بالتأمل وممارسة اليوغا مروراً بأكثر من مئة نوع من الأدوية المخصصة لمحاربة القلق والتي يمكن للمحتاجين إليها الحصول عليها من الصيدليات بعضها بإذن من الطبيب وبعضها الآخر من دون الحاجة إلى مثل هذا الإذن.

027153138bedc153797ffc29e5d0-1685668.jpg

القلق أسهم في بناء الحضارة لأنه سبب للمثابرة (pxhere)


وتقول أستاذة علم النفس وعلم الأعصاب في كلية هنتر في نيويورك، تريسي دينيس، مؤلفة كتاب "زمن المستقبل: لماذا القلق مفيد لك"، أن أحد أسباب الفشل في تصنيف أمراض القلق والحد منها "هو أن أخصائيي الصحة العقلية، بمن فيهم أنا، ضللوا الناس عن غير قصد بشأن طبيعة القلق في الماضي وهو سوء فهم أضر بنا". وتقول الأستاذة دينيس أنه بدءاً بكتاب داروين "التعبير عن المشاعر في الإنسان والحيوان" توصلنا إلى التعرّف إلى أن مشاعر مثل الغضب والخوف والقلق قد تكون مفيدة أكثر من كونها مضرة. فالعواطف بطريقة ما هي أدوات للبقاء تم تشكيلها وصقلها على مدى مئات آلاف السنين من التطور لحماية البشر وضمان تكاثرهم وبقائهم. فيمكن للخوف أن يحضرنا للقتال أو الهروب أو التجمد، بينما تبين أن القلق أسهم في بناء الحضارة لأنه سبب للمثابرة والبقاء على يقظة والتصرف بطرق تتجنب الكوارث في المستقبل".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)


وبرأي أستاذة علم النفس في جامعة نيويورك تريسي دينيس أنه "عندما نكون قلقين فإننا لسنا أكثر إبداعاً وابتكاراً فحسب بل تستجيب أدمغتنا بتركيز وكفاءة أكبر لمواجهة ما لا يمكن التنبؤ به. وينشّط القلق دوافعنا للمكافأة والتواصل الاجتماعي مما يدفعنا إلى العمل من أجل ما نهتم به والتواصل مع الآخرين وأن نكون أكثر إنتاجية. ولهذا السبب، من منظور النظرية التطورية فإن القلق ليس مدمراً بل هو ما يجسد إرادة البقاء".