لئلا تنهار الشركات القاصرة النظر

منذ 1 سنة 125

يشير قصر النظر في الشركات إلى التوجه قصير المدى في عملية صنع القرار، مع إعطاء الأولوية للمكاسب الفورية على الاستدامة طويلة المدى. وهذا السلوك، الذي غالباً ما يكون مدفوعاً بضغوط الأرباح الفصلية وتوقعات السوق، يمكن أن تكون له آثار عميقة في الاقتصاد الجزئي والنشاط الاقتصادي للشركات، كما قد يؤدي السلوك قصير النظر إلى قرارات تضحي بالتخطيط الاستراتيجي والابتكار والعلاقات مع أصحاب المصلحة. وقد تنتج عن هذا السلوك نكسات للشركات على مستويات عدة تمتد آثارها إلى الاقتصاد الوطني، وهو ما قد يستلزم تدخلاً حكومياً لا سيما في الشركات الكبرى التي تعتمد عليها البلدان استراتيجياً واقتصادياً وحتى اجتماعياً.

وبينما يتضمن التفكير طويل المدى نهجاً استراتيجياً حيث تعطي الشركات الأولوية للاستثمارات في الابتكار وتطوير الموظفين والممارسات المستدامة، يميل السلوك قصير النظر إلى التركيز على المكاسب المالية الفورية، وغالباً ما يكون ذلك على حساب النمو على المدى الطويل. وفي حين أن التفكير طويل الأمد يعزز المرونة والقدرة على التكيف والممارسات الأخلاقية، فإن قصر النظر قد يؤدي إلى الركود وتشويه السمعة. ويعزز هذا السلوك رغبة المساهمين في الحصول على أرباح سريعة، وانعكاس ذلك على أسعار الأسهم بغض النظر عن خطط الشركات طويلة المدى، وذلك لا يبرر أن تتصرف الشركات على نحو يؤثر سلباً في مستقبلها.

ويمكن تلخيص مضارّ قصر النظر في نقاط عدة، أولاها أنه قاتل للابتكار في الشركات، فالابتكار استثمارٌ طويل المدى، وتزيد فيه نسبة عدم اليقين، وفي الشركات التي تعطي الأولوية للمكاسب قصيرة المدى قد تنخفض ميزانيات الابتكار. والأمثلة كثيرة لشركات أغفلت جانب الابتكار في استثماراتها فانتهى بها المطاف خارج السوق بعدما كانت اللاعب الرئيسي في صناعتها على مستوى العالم. ثانيتها، الأثر السلبي في الموظفين، فالشركات قصيرة النظر غالباً ما تبحث عن الموظفين الجاهزين، وهي بذلك لا تستثمر في موظفيها من ناحية التدريب والتطوير والمزايا المالية، وهو ما يؤدي حتماً إلى إحباط الموظفين وانفصالهم عن العمل. ثالثتها أن الكيانات ذات المصالح مع الشركات قصيرة النظر تدرك تبعات هذا السلوك عليها، لا سيما أن أبرز مظاهره هو إهمال العلاقات طويلة الأمد مع العملاء والموردين وهو ما يتسبب في تآكل الثقة فيما بينهم.

ويمكن معرفة هذه الشركات من خلال عدد من السلوكيات، فعلى سبيل المثال، هناك الشركات التي تنخرط بشكل مفرط في عمليات إعادة شراء الأسهم لتضخيم أسعار الأسهم قصيرة الأجل، بدلاً من الاستثمار طويل المدى والذي يرفع كذلك أسعار الأسهم، ويعظّم معها ثروة المساهمين. كذلك هناك الشركات التي تتجاهل القوانين البيئية الوطنية، مضحية بسمعتها على المدى الطويل مقابل أرباح قصيرة المدى، ومعرضة نفسها لعقوبات وغرامات حكومية قد تدفع بأسعار أسهمها للنزول. كما أن معدل دوران الموظفين في الشركات دليل آخر على قصر نظر الشركات، وعادة ما يقضي الموظفون سنوات قليلة في هذه الشركات قبل الانتقال إلى أخرى لغياب الرؤية فيها، وبالمقابل فإن الموظفين عادة ما يستقرون فترة أطول في الشركات العريقة ذات الاستثمارات طويلة المدى، وهي الشركات التي عادة ما تخرّج قادة لقطاعاتها.

وبمعرفة ذلك كله، يتضح أن التدخل الحكومي ومعالجة هذا السلوك هما ضرورة أساسية لتحقيق النمو المستدام للشركات وبالتالي للاقتصاد الجزئي؛ ولذلك فإن الكثير من الحكومات تتدخل في الشركات من خلال حوكمة الشركات التي تلتفت للأطر التنظيمية للشركات وتحديداً من خلال مجالس الإدارات. وقد تأتي هذه التدخلات على شكل مطالبات للشركات بالكشف عن خططها طويلة المدى للاستدامة المالية، أو من خلال توفير السبل للمساهمين بالتعبير عن مخاوفهم بشأن الممارسات قصيرة النظر.

إن ضبابية الرؤية لدى الشركات بشأن مستقبلها، وعدم مواءمة هذه الرؤية محيطها الاقتصادي والاجتماعي والسياسي هما أسهل وصفة لخروجها من السوق. والتاريخ ممتلئ بشركات فكَّر صنّاع القرارات فيها بأرباحها الربعية والسنوية دون النظر إلى الاستثمارات طويلة المدى، لأسباب منها معرفتهم بعدم استمراريتهم مدداً طويلة في مناصب قيادية، أو خوفهم من التشكك في الاستثمارات التي تؤتي أُكلها بعد سنوات، أو حتى استجابة لضغوطات المساهمين الذين يبحثون عن جني الربح السريع؛ ولذلك فإن تدخُل الحكومات لحماية هذه الشركات ضرورة تحمي من خلالها اقتصاداتها الوطنية، ولأنها في حال خسارة هذه الشركات، قد تضطر إلى مساعدتها حمايةً لاقتصاداتها. والشواهد على هذه الخسائر والمساعدات كثيرة، كان أبرزها تدخُل الحكومات لحماية المؤسسات المصرفية خلال الأزمة المالية، التي فُرضت بعدها قواعد صارمة على هذه المؤسسات للابتعاد عن السلوكيات قصيرة النظر.