تصنف صناعة البناء والتشييد كمساهم كبير في انبعاثات ثاني أكسيد الكربون، إذ يتحمل إنتاج المواد الخام المسؤولية عن جزء كبير من هذه الانبعاثات، والحقيقة أن البناء يعتمد بشكل كبير على المواد المصنعة والمعالجة ذات البصمة البيئية الكبيرة في حين لا يقابلها الحجم نفسه من الفوائد، إذ تقيس نظرية البصمة الكربونية الانبعاثات الناتجة من أي كيان يسهم في التأثير البيئي على كوكبنا طوال دورة حياته، سواء كان كائناً حياً أم جماداً، لذا تتكثف الدعوات إلى تطوير تقنيات ومواد بناء مسؤولة على المستوى البيئي بشكل أكبر، في حين تعد استراتيجيات مثل إعادة استخدام المواد وتوفير الموارد المحلية جزءاً لا يتجزأ من الجهود الرامية إلى تخفيف الأثر البيئي على كوكبنا.
الأداء المناخي الحيوي
وتنطوي الهندسة المعمارية على مجالات متعددة الاختصاصات، إذ كثيراً ما عنيت العمارة بالظروف الاجتماعية والبيئية المحيطة بها، كما تسير الاعتبارات الوظيفية مع تلك الفنية جنباً إلى جنب لتحقيق الثلاثية الأهم في العمارة، وهي أساس هندسي متين، وتصميم داخلي موظف اجتماعياً، وهيكل خارجي يحقق أفضل تفاعل مع البيئة المحيطة.
وتوضع المتطلبات السابقة اعتماداً على السياق العام، مع الأخذ في الاعتبار المناخ، والمناطق المحيطة، والأبنية المجاورة، والتنوع البيولوجي المحلي، إذ لا يمكن للهندسة المعمارية أن توجد إلا ضمن سياق محدد، يتوسع تدريجاً ليشار إليه باسم البيئة، التي يجب للهندسة المعمارية أن لا تنفصل عنها، بخاصة أن مبادئ التصميم الصحيحة تنطلق وتهدف على الدوام إلى تحسين الأداء المناخي الحيوي للمبنى (التفاعل بين المبنى والمجال الحيوي المحيط به من مناخ وأنشطة وكائنات حية).
تسخير الظروف الطبيعية
مع التقدم التكنولوجي أصبح تنظيم هذا الأداء بشكل مقصود وموجه ممكناً، وكذلك تطورت القدرة على فصل المبنى جزئياً عن بيئته الطبيعية، مما ألقى الضوء ثانية على فاعلية "التصميم السلبي" وإيجابياته وتماشيه مع العمارة المناخية الحيوية نظراً إلى اعتماده على الظروف الطبيعية لتنظيم درجة حرارة المبنى وكيفية استخدام الطاقة، ليتردد اليوم السؤال التالي، هل يمكن للتصميم السلبي أن يقلل بشكل فعال من البصمة الكربونية البشرية؟
يعتمد نهج التصميم السلبي على تسخير الظروف الطبيعية وتحقيق أقصى استفادة من العناصر الطبيعية بغرض تقليل الحاجة إلى التحكم الاصطناعي أو الميكانيكي في المناخ، ويستلزم ذلك تطبيق مجموعة استراتيجيات، منها تحسين تخطيط المبنى واختيار المواد المناسبة وأماكن الفتحات والاتجاهات، مما يؤدي في نهاية المطاف إلى تعزيز الراحة البيئية ويجعل المباني الخاصة أكثر صداقة مع البيئة، كما يمكن أن يقلل اعتمادها على نطاق واسع وبشكل كبير من الاستهلاك الإجمالي للطاقة.
الاستراتيجيات المناخية الحيوية
وتتضمن المبادئ الأساسية للتصميم السلبي اختيار الفتحات التي تسمح لضوء الشمس بالدخول إلى داخل المبنى في الأشهر الباردة وتوفير التهوية في المناخات الحارة، إذ يسهم التصميم السلبي في التأثير البيئي الإيجابي من خلال تقليل حاجة إلى أنظمة التدفئة والتهوية والتكييف التي تعتمد على موارد محدودة وغير متجددة، بخاصة أن التدفئة والكهرباء مسؤولتان عما يقارب 19 في المئة من انبعاثات الغازات الدفيئة غير المباشرة، لذا يمكن أن يخفض اعتماد مبادئ التصميم السلبي معدل الانبعاثات بشكل كبير، ويقلل الاعتماد على الكهرباء والتدفئة، من ثم يخف العبء على هذه الأنظمة، مما يؤدي إلى خفض في الطلب يسهم بدوره في تقليل استخدام الوقود الأحفوري، مصدر الطاقة الأساس لإنتاج وتقديم هذه الخدمات.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
كما تطرح التهوية المتقاطعة أو المتبادلة كطريقة سلبية لتكييف الهواء الطبيعي. ولتحقيق أقصى استفادة من هذه التقنية، يجب أن يأخذ موقع المبنى في الاعتبار الظروف المحلية مثل الاستفادة من تيارات الرياح السائدة خلال أشهر الصيف الحارة، واستثمار الفتحات الاستراتيجية المتموضعة قرب السقف، والتي تعمل بمثابة مخارج للهواء الساخن الذي يتراكم قرب المناطق العلوية، مما يؤدي إلى خفض درجات الحرارة بشكل فعال في الأماكن الداخلية المغلقة.
كذلك يعمل التعرض لأشعة الشمس أو مبدأ التشمس (مقياس لطاقة الإشعاع الشمسي المستلمة على مساحة معينة والمسجلة خلال وقت محدد) على نحو مماثل، من طريق محاذاة اتجاه المبنى مع الأرض لضمان دخول ضوء الشمس المباشر، بخاصة في المواسم الباردة، ومن المهم أيضاً مراعاة كيفية تأثير ضوء الشمس على مواد البناء، إذ ينبغي أن تمتلك هذه المواد جموداً حرارياً (قصوراً ذاتياً حرارياً) يتوافق مع التأثير المطلوب، بحيث تستطيع هذه المواد امتصاص الحرارة أثناء النهار وإطلاقها تدريجاً في الليل أو تسهيل هذه التبادلات الحرارية. ويعرف القصور الذاتي الحراري بأنه ميل المادة إلى مقاومة التغيرات في درجة الحرارة وقدرتها على امتصاص الطاقة ثم استعادتها، وبشكل دق هي درجة البطء التي تقترب بها درجة حرارة الجسم من درجة حرارة البيئة المحيطة بها.
الاكتفاء الذاتي
إضافة إلى الاستراتيجيات المناخية الحيوية التي تركز على كيفية استخدام وإشغال المساحات المشيدة، يرتبط جزء كبير من انبعاثات الغازات الدفينة بإنتاج مواد البناء، فعلى سبيل المثال يتطلب تصنيع مواد مثل الأسمنت والصلب القيام بحرق الوقود الأحفوري، لذا من الضروري إعطاء الأولوية لجهود البحث والتطوير في سبيل إيجاد بدائل مستدامة ومتجددة لهذه المواد.
ومن هنا تعد الأسطح الخضراء عنصراً حيوياً في نظام البناء، إذ تتناغم بسلاسة مع التصميم السلبي، إضافة إلى إنشاء مواد البناء باستخدام النفايات كمواد خام أساسية وضمان إمكانية إعادة التدوير الذي يجعل هذه المواد أقرب إلى دورة الحياة الطبيعية التي تشمل أيضاً التصرف بشكل مسؤول بيئياً.
ويدعم المهندسون المعماريون اليوم مفاهيم مثل تحديد أولويات التصميم السلبي والاستخدام المكثف الاستراتيجيات المناخية الحيوية، كالتركيز على تحسين التهوية، واستخدام مواد فعالة من حيث الكلفة، وتنفيذ ممارسات فعالة لإدارة النفايات أثناء البناء والتصنيع، واستخدام أساليب البناء الجاهزة التي تؤدي إلى تسريع عملية البناء، فضلاً عن تطبيق مفهوم الاستدامة طويلة المدى والتعويض البيئي (إجراء يهدف إلى تعويض الطاقة المستهلكة أثناء إنشاء المبنى وتشغيله)، الذي يجسد نهج صافي صفر (الصفر كمحصلة) ويخفف من الأثر البيئي للبناء الجديد، كما يعزز التصميم السلبي بشكل كبير من أداء المبنى عند دمجه مع أنظمة الطاقة المتجددة، فهو يجعل البناء أكثر اكتفاءً ذاتياً من حيث الطاقة.
كما يقلل التصميم السلبي من متطلبات الصيانة طوال دورة حياة المبنى لأنه يعتمد بدرجة أقل على تكييف الهواء الاصطناعي، وهذا بدوره يقلل من احتمالية حدوث خلل في البنية التحتية وأنظمة المبنى، لكن من الضروري أن نؤكد أن التصميم السلبي هو مجرد عنصر واحد ضمن نظام أوسع يسهم في الهندسة المعمارية المسؤولة بيئياً والمتجددة، لذا يجب على جميع العاملين في مجال البناء فهم الظروف الطبيعية واستخدامها واستثمارها، والأخذ في الاعتبار المواد المستخدمة في المشروع والبنية التحتية الحضارية الداعمة للمبنى وموقعه داخل المدينة، مع تضافر الجهود الجماعية لكي نكون على قدر التحديات البيئية التي نواجهها اليوم.