هل لدى الناس الذين يردّدون شعارات مثل «فلسطين حرة» و«من النهر إلى البحر... فلسطين حرة» أي فكرة عن الضرر غير القابل للإصلاح الذي يلحقونه بأي أملٍ في السيادة الفلسطينية؟
طيلة عقود من الزمان، ظلَّت مسألة الدولة الفلسطينية مقصورة بين تاريخين (1948 و1967)، ويقول معظم المؤيدين الغربيين للدولة الفلسطينية إن التاريخ الرئيسي هو حرب الأيام الستة في يونيو (حزيران) 1967، عندما استولت إسرائيل، التي واجهت تهديدات واضحة بالفناء، على مرتفعات الجولان، والضفة الغربية، والقدس الشرقية، وقطاع غزة، وشبه جزيرة سيناء.
وفقاً لهذا الخط من التفكير، فإن الطريق إلى السلام كان يستند إلى الاعتراف الدبلوماسي العربي بإسرائيل، في مقابل عودة هذه الأراضي التي عُرفت بالأراضي المحتلة. وهذا ما حدث بين مصر وإسرائيل في «كامب ديفيد» عام 1978. وما كان يمكن أن يحدث أيضاً في «كامب ديفيد» عام 2000 لو أن ياسر عرفات تقبل عرض الدولة الكاملة الذي قدَّمه له رئيس الوزراء الإسرائيلي إيهود باراك.
لكن هناك دوماً رواية ثانية ترجع إلى عام 1967، وليس إلى عام 1948، عندما ظهرت إسرائيل كدولة ذات سيادة. وبهذه الحجة، فإنَّ القدس الشرقية، والضفة الغربية، ومرتفعات الجولان، ليست وحدها التي تحتلها إسرائيل، بل إنَّها حيفا، وتل أبيب، وإيلات، والقدس الغربية أيضاً. ولكي «تتحرر» فلسطين، فلا بد أن ينتهي الوجود الإسرائيلي ذاته.
ابتداء من سبعينات القرن العشرين، كان أنصار عام 1948 معروفين باسم «جبهة الرفض». وفي وقت أقرب إلى الزمن الحاضر، تشكّل منهم «محور المقاومة». وتشتمل عضويته على حركة «حماس»، و«حزب الله» اللبناني، والحوثيين اليمنيين، و«الجهاد الإسلامي» الفلسطينية، ونظام بشار الأسد في سوريا، و«الحرس الثوري الإيراني» - وهو من بين الجماعات الإرهابية المدرجة على قوائم الإرهاب والدول الراعية له.
في 7 أكتوبر (تشرين الأول)، أصبح محور المقاومة هو وجه الحركة الفلسطينية. وفي 8 أكتوبر، اختار المتظاهرون في جميع أنحاء العالم تبني هذا المحور. وفي بعض الأحيان، فعلوا ذلك من دون قصد، معتقدين أنه لا يوجد تناقض بين كونهم مؤيدين لفلسطين ودعم حق إسرائيل في الوجود، أو عدم فهم الآثار المترتبة على الشعارات التي كانوا يرددونها.
لكنهم فعلوا ذلك عن قصد في كثير من الأحيان؛ عندما قال محمد خير الله، عمدة مدينة بروسبكت بارك، بولاية نيوجيرسي: «إن 75 عاماً من الاحتلال أطول مما ينبغي»، بتجمع حاشد في أكتوبر، كان متبنياً لرواية عام 1948. وعندما نشرت النائبة رشيدة طليب، من ولاية ميشيغان، أنه «بعد 75 عاماً، لا تزال النكبة مستمرة حتى يومنا هذا»، ورفضت قبول إسرائيل بوصفها دولة يهودية، كانت تتبنى الموقف نفسه. وعندما قالت جوديث بتلر، الأستاذة بجامعة بيركلي، في مقابلة إن «جذور المشكلة تكمن في تشكيل الدولة التي تعتمد على الطرد وسرقة الأراضي لتأسيس (شرعيتها) الخاصة بها، ودعم الدولة ثنائية القومية»، كانت تتبنى الموقف نفسه. وعندما رد فرع لوس أنجليس من حركة «حياة السود مهمة» على مقتلة 7 أكتوبر بنشر مدونة على «فيسبوك» تقول: «عندما يتعرّض شعب لعقود من الفصل العنصري والعنف الذي لا يُمكن تصوره، يجب ألا تتم إدانة مقاومته، بل يجب أن تُفهم أنها عمل يائس للدفاع عن النفس»، كان يتبنى الموقف نفسه. وعندما وصفت خدمة «هيئة الإذاعة البريطانية» باللغة العربية مراراً وتكراراً الإسرائيليين العاديين بأنهم «مستوطنون»، فإنها كانت تتقبل الموقف نفسه.
مثل هذه المواقف المتخَذة لها عواقبها.
كتبت سوزي لينفيلد، أستاذة الصحافة في جامعة نيويورك، في مقال مهم نشرته مؤخراً مجلة «كويليت» على الإنترنت: «إن اليسار الذي يُطالِب عن حق بالإدانة المطلقة للتفوق القومي الأبيض، يرفض أن ينأى بنفسه عن التفوق الإسلامي. وإن اليسار الذي يشيد بالتقاطعية مع مختلف الأطياف لم يلاحظ أن محور دعم (حماس) يتألف من إيران، التي اشتهرت مؤخراً بقتل مئات المتظاهرين المطالبين بحرية المرأة».
من ناحية أخرى، تعزز هذه المبادئ القناعات المركزية والمخاوف العميقة لليمين الإسرائيلي؛ أن الفلسطينيين لم يتصالحوا أبداً مع وجود إسرائيل على أي حدود، وأن كل تنازل إقليمي ودبلوماسي إسرائيلي يعدّه الفلسطينيون دليلاً على الضعف، وأن قيام دولة فلسطينية في قطاع غزة والضفة الغربية لن يكون سوى منصة لشن هجوم مكثف على إسرائيل، وأن كل انتقاد للسياسات الإسرائيلية في الأراضي المحتلة إنما هو بمثابة غطاء يُخفي الكراهية عميقة الجذور للدولة اليهودية.
حين يتبنَّى اليسار سياسة المحصلة الصفرية في المقاومة الفلسطينية، فإنه بذلك يشجع سياسات المحصلة الصفرية ذاتها التي ينتهجها المستوطنون الإسرائيليون المتشددون وأنصارهم.
العاقبة الثالثة أنها تُلقي بالشعب الفلسطيني في أحضان أسوأ زعمائه.
لا بأس أن يطرح أشد منتقدي إسرائيل أسئلة صعبة على قادة إسرائيل. ولكن عندما يتوقف هؤلاء المنتقدون أنفسهم عن طرح أسئلة مماثلة بالقدر ذاته من الصعوبة على الزعماء الفلسطينيين، فإنهم لا يدافعون عن قضية بعينها، بل إنهم يخضعون فقط لنظام عام قائم.
إن العالم، بما في ذلك إسرائيل، لديه مصلحة مشتركة في إقامة دولة فلسطينية في نهاية المطاف تهتم ببناء نفسها، وتستثمر طاقتها في ازدهار المستقبل (وليس في استجلاب أمجاد الماضي) وتقبل الحلول الوسط وترفض التعصب.
منذ يوم 7 أكتوبر، دعا أشد المؤيدين «المروّجين لأنفسهم» للقضية الفلسطينية إلى العكس تماماً. ربما تكون وصفة بالغة الغرور لإرضاء الذات، ولكنها أيضاً طريقة لوأد الدولة الفلسطينية.
* خدمة «نيويورك تايمز»