زخم سياحي في أرجاء أرض الجليد والنار، الينابيع الحارة تجتذب السائحين الذين يستهدفونها للاستجمام والاسترخاء وقضاء ساعات داخل المياه الساخنة الطبيعية ذات الطاقة الحرارية الأرضية، والاستمتاع بمشاهدة الظواهر الطبيعية الخلابة التي ظهرت في مسلسلات عالمية، والمرور على الشواطئ ذات الرمال السوداء التي تشكلت نتيجة الانفجارات البركانية.
المشاهد البديعة الجاذبة للسائحين لا تقتصر على النهار ففي ساعات المساء تتراقص ألوان السماء بشكل مبدع أمام أعين آلاف السياح بتموجات متحركة من الضوء الأزرق أو الأخضر أو الأرجواني بظاهرة علمية يطلق عليها "الشفق القطبي" أو "الأضواء الشمالية".
أرض الجليد والنار
السياحة في ايسلندا ذات متعة مثيرة يحلم بها عديد من سائحي العالم كونها تمتلك مناظر طبيعية خيالية وفريدة من نوعها تجذب كل من يقوم بزيارتها، حيث الشلالات المتدفقة والينابيع الحارة والبحيرات والأنهار الجليدية، وكذلك خوض تجربة المشي بين الحمم البركانية أو مشاهدة الحيتان والدلافين في مياه المحيط نهاراً والاستمتاع برقصات الشفق القطبي مساءً.
ايسلندا دولة جزرية أوروبية تقع في شمال المحيط الأطلسي، وتعد (بحسب علم الجيولوجيا)، كتلة يابسة حديثة العهد نسبياً، حيث ظهرت كجزيرة بعد سلسلة من الانفجارات البركانية في منتصف المحيط الأطلسي ما بين 20 و30 مليون سنة مضت.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ويرى المؤرخون في جامعة آرهوس الدنماركية، أن مجموعة من الرهبان الإيرلنديون وصلوا إلى الأرض الجليدية منها في القرن التاسع، ولكن تخلوا عنها بسبب التضاريس المعزولة والبرد القارس، وكذلك وصول قبائل "الفايكنج" الاسكندنافية من الجهة الشرقية من الجزيرة، الذين اعتبروا أول من استوطن الأراضي الايسلندية بشكل دائم، وعلى مدى قرون متلاحقة تناوب التاج النرويجي والدنماركي على فرض السيادة على الجزيرة الصغيرة، حتى حصلت على استقلالها عام 1918 بعد انفصالها عن التاج الدنماركي، وفي عام 1944 أصبحت جمهورية وعاصمتها "ريكيافيك".
إفلاس الدولة
كانت السياحة والهجرة إلى ايسلندا منخفضة للغاية على مدى عقود، بسبب موقعها البعيد ومناخها القاسي، ونقص الفرص الاقتصادية، إذ يعد صيد السمك أحد ركائزها الاقتصادية، وبعد انضمام البلاد إلى المنطقة الاقتصادية الأوروبية في عام 1994، اهتمت الحكومة بتنويع اقتصادها بعيداً من الصيد، لكن سرعان ما دخلت البلاد في أزمة مالية بعد انهيار قطاعها المالي.
وأشار الكاتب روجر بويز في كتابه الاقتصادي "ذوبان ايسلندا" أن الأزمة المالية التي عاشتها أرض الجليد والنار أصبحت قضية قومية عندما أعلن رئيس وزرائها في عام 2007 أن بلاده على شفا الإفلاس، بسبب خطة الحكومة في بداية الألفية على تنويع اقتصادها وخصخصة البنوك، وهو ما رآه كثير من المحللين الاقتصاديين خطوة متسرعة، وبحلول 2003 خصخصت البنوك الرئيسة الثلاثة، حين توسعت خدماتها البنكية لتشمل تسهيل القروض، لكن البنوك لم تحقق الأرباح المرجوة لأن العدد السكاني للبلاد لم يكن يتجاوز 300 ألف نسمة، فقررت البنوك الايسلندية الانضمام إلى الأسواق الدولية لاجتذاب الأموال بشكل أسرع، لكنها لم تتحمل توابع الأزمة المالية العالمية التي أوقفت تدفق أموال المستثمرين والمضاربين بشكل مفاجئ والتي كانت القوة الدافعة وراء اقتصاد ايسلندا، فأدى ذلك إلى انهيار مالي سريع لم تتمكن الحكومة الايسلندية إيقافه، ووصلت خسائر سوق الأوراق المالية إلى 90 في المئة، مع إفلاس البنوك وانخفاض قيمة العملة الايسلندية مما خلق وضعاً يوصف غالباً بأنه "إفلاس وطني" وحالة من الاضطراب السياسي في البلاد.
ترويج سياحي
وشهدت أرض النار والجليد عام 2009 أكبر موجة هجرة منذ 1887 بعدما تخلى الايسلنديون عن بلادهم، ووضعت الحكومة خططاً تدعو إلى أن تكون صناعة السياحة هي المنقذ للاقتصاد، مستغلة جمال الطبيعة الخلابة، فأنشأت مركزاً جديداً للرقابة السياحية Visit Iceland and Creative Industries للقيام بتنسيق العمل الحكومي في مجال السياحة على مستوى البلاد، كما بذلت جهوداً لتتبع الوجهات السياحية الأكثر شعبية وتلقي مدخلات من السياح حول كيفية تحسين تجاربهم في تلك الوجهات.
واهتم المسؤولون عن الترويج والتسويق للبلاد بزيادة الرحلات الاقتصادية من أوروبا والولايات الأميركية وكندا إلى ايسلندا في الأشهر الأولى من عام 2010، وأتاحت الخطوط الجوية عروضاً مجانية تتيح للمسافرين عبر المحيط الأطلسي التوقف في مطارها الدولي لأيام عدة كفرصة لاستكشاف أرضها، مما أثرى عدد السياح بخاصة مع انخفاض قيمة عملة "الكرونة" الايسلندية بعد الأزمة المالية.
وأكد الصحافي كريس بارانيوك في تقرير له عن ازدهار السياحة في ايسلندا نشرته "بي بي سي"، أن هناك أسباباً أخرى رفعت اهتمام العالم لزيارة الأراضي الايسلندية منها ثوران بركان "إيافيالايوكل" في عام 2010 الذي سبب سحابة من الرماد أدت إلى انعدام الرؤية في معظم أجزاء أوروبا وتعطيل حركة الطيران لأيام عدة، التي كانت الأعلى منذ الحرب العالمية الثانية، وكذلك انتشار مقاطع تدفق الحمم البركانية الحمراء على الجبل الجليدي كان بمثابة لوحة إعلانية عالمية لجمال ايسلندا الطبيعي.
وأضاف بارانيوك أن مفاجأة وصول المنتخب الايسلندي إلى الدور الربع النهائي في بطولة كأس أوروبا 2016 بعد فوز تاريخي على منتخب إنجلترا، وكذلك تأهله إلى نهائيات كأس العالم 2018 في روسيا كأصغر بلد من حيث عدد السكان تخوض البطولة العالمية، أثارت اهتمام المشجعين والمتابعين للبحث عن الجزيرة الايسلندية الخلابة وجعلها ضمن خططهم السياحية.
انفراجة
أصبحت ايسلندا وجهة على مدار العام وليس في موسم الصيف فقط، حيث نجحت الحكومة في تحويل السياحة من جزء صغير من الاقتصاد إلى أكبر صناعة لها، حتى أنها جاوزت أرقام صناعات الألمنيوم وصيد الأسماك، وقفزت العائدات السياحية في الاقتصاد الايسلندي بنحو 42 في المئة عام 2017 مقارنة مع 27 في المئة عام 2013، وفقاً للإحصاءات الرسمية، كما تنامت أعداد المسافرين في مطار كيفلافيك الدولي بشكل مطرد، وشهد عام 2016 وحده قفزة في أعداد المسافرين المارين بذلك المطار بنسبة 40 في المئة لتصل إلى سبعة ملايين تقريباً.
وبينت إحصاءات مجلس السياحة الايسلندية تزايد عدد السائحين في البلاد من 488 ألف سائح عام 2010، إلى أكثر من أربعة أضعاف حتى تجاوزت مليونين سنوياً في عام 2019 منها السياح الأميركيين بنسبة 191% في المئة خلال الفترة ما بين 2014 إلى 2019، وفقاً لتقرير المكتب الوطني للسفر والسياحة في وزارة التجارة الأميركية لعام 2020.
ما بعد "كوفيد"
أثرت جائحة كورونا "كوفيد -19" في أعداد السياح الوافدين إلى ايسلندا، حيث انخفض العدد بنسبة 76 في المئة في عام 2020، لكنه ارتفع مرة أخرى بنسبة 44 في المئة عام 2021، ليصل إلى ما يقرب من 700 ألف سائح، كما تشير الإحصاءات إلى أن معدل إنفاق السياح داخل الأراضي الجليدية في عام 2021 بلغ حوالى 1.3 مليار دولار أميركي بعد انخفاض قوي في عام 2020، جراء انخفاض معدلات السفر بعد إغلاقات الطيران العالمية.
لم يتوقف التغيير الجذري على برامج السياحة والاقتصاد، وإنما أثر في ملف الهجرة، إذ تشير الإحصاءات الرسمية الايسلندية إلى تنامي أرقام الهجرة إليها بشكل كبير مقارنة مع عقد مضى، إذ يبلغ معدل المهاجرين 16.3 في المئة من السكان الايسلنديين، وحصل 905 منهم على الجنسية الايسلندية في عام 2021 مقارنة مع 395 عام 2020.
مخاوف وتحديات
على رغم أن السياحة قادت انتعاشاً في ايسلندا لم يتوقعه حتى أكثر الاقتصاديين تفاؤلاً، إلا أن هناك بعض القلق من حدوث إفلاس مشابه لما حدث في القطاع المصرفي بقطاعها السياحي، والسبب أنه يعتمد بشكل رئيس على سياح الخارج، الذي قد يتأثر أو يتضاءل بسبب ارتفاع تكاليف السفر إلى ايسلندا أو التضخم العالمي وارتفاع الضرائب وزيادة الرسوم على الواردات من أجل الحفاظ على الإنتاج المحلي، وكذلك استعادة قيمة العملة الايسلندية لوضعها الطبيعي بعد سنوات من الأزمة المالية التي رآها الملايين فرصة لرؤية بلاد الجليد والنار بأسعار معقولة، مع ظهور أماكن سياحية بأسعار تنافسية واقتصادية أكثر.
المخاوف قد تتبدد إذا ما وضع السائح في حسبانه أن ايسلندا هي الدولة الأكثر أماناً في العالم في مؤشر السلام العالمي لأكثر من عقد من الزمن، وكذلك وجود طبيعة فريدة وغنية تجمع بين نيران البراكين وصقيع الطقس البارد والجليد، وظهور أجزاء من طبيعتها ضمن مسلسلات العالمية أبرزها "الفاكينيج وصراع العروش"، ومشاهدة الشفق بأنواره المتلألئة حتماً ستكون أسباباً كافية لتجعل أرض الجليد والنار ضمن أولويات السفر لمحبي المغامرات والاكتشافات خلال السنوات المقبلة.