كيف نشأت البنوك وتطورت عبر التاريخ؟

منذ 1 سنة 149

وفق قصته الشهيرة "تاجر البندقية" نقل لنا الكاتب الإنجليزي الشهير وليام شكسبير عبر نصه الذي وضعه في عام 1598 تقريباً ذروة الصراع بين المال والأخلاق ضمن تاريخ البشرية، إذ أصر "شايلوك" التاجر اليهودي المضطهد مع شعبه على مدى آلاف السنين بسبب امتهان الربا، على أن ينفذ القانون شرطه الجزائي الغريب، المتمثل في اقتطاع رطل من لحم غريمه "أنطونيو" بعد أن عجز عن الإيفاء بدينه له. مشاعر الكراهية بين المقترض والمقرض موجودة حتى يومنا هذا لكنها لا تصل إلى هذه الدرجة، وعادة تكون تجاه المقرض من جانب المقترض الذي عجز عن السداد وليس العكس.

قبل هذا التاريخ بما يزيد على ألف عام كانت أسرة "أجيبي" البابلية ذات الأصول اليهودية أيضاً تحرض المعبد ضد ملك بابل "نبونيدس" وتستنجد بملك فارس "قورش"، بعد أن شدد آخر ملوك بابل الحديثة الخناق على معبد "أنانا" الذي تحالفت مع رجاله العائلة الثرية. ووفق "رقائق البحر الميت" الشهيرة وجدت قصة مفبركة عن "نبوخذ نصر" من رجال دين تحالفوا بدورهم مع عائلات ثرية (صيارفة) لإسقاط الملك، أدى هذا المخاض إلى ظهور أول مصرف حديث عام 1609 في هولندا وهو "مصرف أمستردام" الذي كان أول من أصدر إيصالات متداولة في الأسواق، وفي 1970 ظهر أول مصرف إسلامي في دبي ويوجد حالياً 100 مصرف إسلامي تعمل وفق نظام المرابحة تجنباً لإثارة مزيد من مشاعر الكراهية ضد ما يسمى بالمصارف الربوية.

نهاية فقه الدفائن والخرافة

ظهرت فكرة البنوك قديماً في الحضارات الروحية من خلال فكرة الدفائن، إذ خبأ الفراعنة كنوزهم في قبورهم، وجمعت بابل ثروتها من خلال أسر شهيرة مثل أسرة "أجيبي" التي "استحوذت على ثروات طائلة من مجرد تسليف الأموال بسعر فائدة مرتفع تراوح بين 20 و30 في المئة" وفق كتاب "العراق القديم" لجورج رد، فيما ابتدع الصينيون أسطورة التنين الذي يحرس الكنوز. وعبر العرب عن الحكاية ذاتها من خلال المارد المختبئ في مصباح بـ"مغارة علي بابا" وسط الصحراء.

ومن الملاحظ أن هناك دائماً ربطاً بين المخلوقات الأسطورية  الخرافية والدفائن، وتراوحت المخلوقات بين الجن والتنين والتعويذات السحرية، ومع التقدم العلمي تلاشت هذه الأساطير، فيما حلت الآلة من خلال التقنيات الحديثة محل هذه المخلوقات الأسطورية لتتولى مهمة حماية الكنوز في البنوك عبر الخزنات الذكية وكثير من تطبيقات الذكاء الاصطناعي.

وذكر كتاب "تاريخ العالم" لمؤلفه "و.ن.ويشر" أن الأمراء المأزومون مالياً في عهد "البندقية" شاركوا باضطهاد الأثرياء اليهود من خلال سجنهم وتعذيبهم "إلى أن يكشفوا مخابئ أموالهم"، مستغلين كراهية الناس لهذه الفئة التي احتكرت الإقراض على مر التاريخ.

ويضيف الكتاب "كانت مهنة الإقراض مهنة خطرة والفائدة وصلت في القرون الوسطى إلى 40 في المئة"، مما قاد إلى انتهاء مرحلة دفن الأموال في أماكن سرية، وإنشاء البنوك ضمن مراكز المدن والقرى وفي الشوارع والأسواق لتحتل بذلك مكانتها المرموقة اقتصادياً، معبرة عن ذلك من خلال انتشارها حتى في أفقر المناطق والأحياء السكنية.

نقلت_قصة__تاجر_البندقية_أجواء_الصراع_بين_المال_والاخلاق_الصورة_لاندبندنت_عربية.png


البنوك حديثاً

ولم يقتصر نشاط البنوك حديثاً على العقارات والزراعة والصناعة والنشاطات التجارية النقدية، فالمضاربة من دون تحمل أعباء المخاطرة وبذل الجهد في اختيار المشروع ومن ثم القيام بمتابعته حتى ينجح أدت إلى نتائج كارثية على المجتمعات الحديثة، بل إن المصارف الإسلامية أعلنت استعدادها لتحمل الخسارة مع المقترض ضمن أدبياتها، مما زاد الأعباء على البنوك التجارية، حتى أن الكاتب اللبناني نسيم طالب عبر عن هذا السلوك الخطر لبعض البنوك الربحية الذي نتجت منه أزمة المصارف في لبنان أخيراً، التي دفع ثمنها المواطن وحده، بقوله "يجب علينا منع البنوك من المخاطرة لأن المجتمع كله سيدفع الثمن".

وفي الأردن يرى كثيرون أن تطبيقات متفرعة من ثقافة الإقراض تفشت في المجتمع الذي اتصف بالاستهلاك الزائد نظراً إلى طبيعة الحياة، مما أدى إلى انتشار مئات شركات التمويل الأصغر، التي تصل نسبة الفائدة لديها على قروض صغيرة إلى نسبة مماثلة لما كان يحدث في القرون الوسطى، إذ تحتل هذه الشركات التي قادت المجتمع الأردني نحو أزمات اقتصادية مواقع عدة في المدن الكبرى وفي الألوية والمحافظات كافة. يذكر أن أزمة "الغارمات" الأردنيات بلغت ذروتها في 2019، إذ وصل عددهن إلى 13 ألف غارمة نفذت في حق كثير منهن أحكام قضائية وصلت إلى الحبس.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)


نظرية اضطهاد اليهود

يرجع كثيرون إنشاء البنوك التجارية إلى حال خاصة تتعلق باضطهاد قوميات كثيرة للعرق اليهودي تحديداً الذي استمر بعد الملكين داوود وسليمان، إبان امبراطورية آشور 715 ق.م في عهد "بخنتصر" الذي ضم مملكة يهوذا ونهب القدس وشرد اليهود، مروراً بالبطالسة 63 ق.م وأثناء حكم الرومان 70م، وصولاً إلى عهد ملك إنجلترا إدوارد الأول الذي نفاهم إلى إسبانيا في عام 1290، ثم فترة البندقية 1600 التي عبرت عنها "هوليوود" من خلال فيلم "تاجر البندقية" للمخرج مايكل رادفورد وبطولة النجم آل باتشينو، إذ كان اليهود ممنوعين من امتلاك العقارات وتولي مناصب عامة لذلك تاجروا بالفائدة التي كانت ضد تعاليم المسيحية.

ويبين "ويشر" في كتاب "تاريخ العالم" أن "طوائف الحرفيين فقدت نفوذها في زمن البندقية وأن الملاحين الفينيقيين أصبحوا مأجورين، وانحصرت السلطة والثروة في أيدي الصيارفة وأصبح المصرفي أهم من مالك الأرض (الإقطاعي)، وكلما ضعفت الكنيسة نهضت مهنة الصرافة"، وفي هذا إشارة إلى ما سمي بالبغضاء الدينية والغيرة المالية في تلك الفترة، إذ استغلت الحكومات هذا الشعور لتحريك الناس ضد اليهود كلما وقعت في ضائقة مالية.

البنك المركزي الاردني من موقع وكالة الانباء الاردنية.jpg


حراس الثروة الجدد

لا يشترط في حراس الثروة المالية الجدد أن يكونوا مثقفين مالياً أو أن يتصفوا بصفات خارقة بسبب اعتمادهم على التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي بشكل كبير، إذ يتولى موظفون عاديون هذه المهمة الحرجة التي تناوب على أدائها تاريخياً مخلوقات أسطورية قوية مثل التنين والمردة.

وفي أحد فروع المصارف التجارية الأردنية لا يسمع كثير من الموظفين بآل روتشيلد أشهر عائلة معاصرة أسهمت في قطاع الصيرفة، ويتهرب مدير الفرع من الإجابة عن الأسئلة الموجهة حول تاريخ هذه المهنة، فيما سمع واحد من الموظفين بهذه العائلة، ولم يتمكن آخرون من الربط بين نشأة هذه المهنة واضطهاد العرق اليهودي.

يذكر أن أكبر رأسمال حديث للبنوك عائد لمصرف التجارة والاقتصاد الصيني وبلغ 277 مليار دولار، تلاه مصرف "بنك أوف أميركا" برأسمال بلغ 195 ملياراً، ثم بنك "اتش إس بي سي" البريطاني بمبلغ 176 ملياراً. أما عربياً فيحتل "بنك مصر" الذي أسسه "طلعت حرب" مطلع القرن الـ20 مكانة مرموقة بين البنوك العربية، فيما يعد "بنك فيصل الإسلامي" من أهم المصارف التي تعمل وفق نظام المرابحة بما ينسجم وتعاليم الإسلام في هذا المجال.